عن الاستدلال بمقولة “اتبع سهام عدوّك ترشدك إلى الحقّ”

بواسطة | أبريل 10, 2024

بواسطة | أبريل 10, 2024

عن الاستدلال بمقولة “اتبع سهام عدوّك ترشدك إلى الحقّ”

يستند الخطاب التعبوي والتربوي والدعوي عند عموم الجماعات الإسلامية إلى فِكَر ومقولات عديدة، يتمّ الاستدلال بها على صواب المشروع الذي تتبناه الجماعة وصدق الفكرة التي تنتهجها، ومن هذه المستندات التي تُعتبر دليلًا على صواب مواقف الجماعة، وصحة منهجها، وقوف العدوّ ضدها وتحالف أهل الباطل في معاداتها.

وقد كان هذا الخطاب حاضرًا عند عموم الجماعات الإسلاميّة، غير أنه في السنوات الأخيرة كان الأشدّ ظهورًا ووضوحًا عند عدد من الجماعات، لا سيما المسلحة منها، حيث تحاول إثبات قداسة ما تحمل وتنتهج من أفكار، من خلال استحضار تحالف الأعداء من “أهل الكفر” و”أساطين الباطل” ضدها.

لم يَقُلها الشافعي

“اتبع سهام عدوّك ترشدك إلى الحقّ”.. هذه العبارة المشهورة المنسوبة إلى الإمام الشّافعي؛ والتي تزخر بها وسائل التواصل الاجتماعي، ويستحضرها كثير من الإسلاميين وأصحاب المشاريع لإثبات أنهم على الحق؛ وتغصّ بها منتديات داعش والقاعدة الدعويّة، هي مقولة باطلة من حيث نسبتها إلى الإمام الشافعي، فلم ترد في أي كتاب من كتبه، ولم ترد في غير ذلك من الكتب التي تنقل عن غيره من الأعلام الكبار.

وما هي إلا كغيرها من العبارات الشائعة المنسوبة إلى الأعلام من العلماء والمفكرين، التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، ولا يكون لها أصل من الصحة من حيث نسبتها إلى الأعلام المشار إليهم.

وهذه العبارة إنما تتمّ نسبتها من قبل واضعيها إلى الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى- لتكتسب موثوقيّتها العالية وقبولَها، دون أدنى تمحيصٍ من قبل المتلقّي.

وماذا عن المضمون؟

والمقولة باطلة أيضًا من حيث مضمونها؛ فالصراع لا يكون بين الحقّ والباطل على الدوام، فقد يحتدم الصراع بين الباطل والباطل أيضًا.

وإن ثنائية الصراع التي رسّخها الخطاب التعبوي في العمل الإسلامي في كثير من الأحيان؛ وهي صورة انقسام العالم إلى فسطاطين هما الحقّ والباطل، وأنّ المعركة تحتدم على الدوام بينهما، مما جعل الصورة المستقرة في الأذهان متجهة إلى ثنائية الحقّ والباطل دون النظر إلى تعقيدات التشابك في الصراع بين القوى الموصومة بأنها قوى الباطل، بل أيضًا بين القوى المنسوبة إلى الحقّ في أحيان عديدة.  ‏

 وارتكز هذا الخطاب القائم على قسمة الحقّ والباطل على أن الباطل إذا كان في جهة فالحقّ هو في الجهة المقابلة بالضرورة، دون النظر في سلوكه ومواقفه وفكره، فكيف إذا اجتمعت مجموعة من قوى الباطل وتحالفت ضد جهة وكيان ما، وكان هذا الكيان يرفع في أدبياته تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية؟!

إشكال استدلاليّ

إذا اجتمعت قوى الباطل وحشدت حشودها ضد جهة ما أو كيان ما أو جماعة ما أو دولة ما أو أحد ما؛ فسرعان ما يتمّ استحضار هذا القول المنسوب للشافعي على أن اجتماعها ضده ليس إلا دليلًا على أنه هو الحقّ أو أنه على الحقّ.

والغريب أن هذا الدليل يحضر في أدبيات عموم القوى الإسلامية على ما بينها من تناقض، من داعش والقاعدة وصولًا إلى الطرق الصوفية مرورًا بما بينهما من الجماعات والقوى والتيارات، وقد لاقى هذا الاستدلال وقعه في نفوس كثيرين ممن تلقّوا هذا الخطاب التعبوي في حياتهم.

وكذلك تبرز في هذا الإطار مقولة يكررها كثيرون مفادها “حيثما كانت أمريكا وإسرائيل فإنّ الحقّ في الجهة المقابلة حتمًا” ما استدعى من كثيرين تبنّي مواقف مساندة لكثير من القوى والدول والجهات والأشخاص، واعتبارها على الحقّ، فقط لأن أمريكا أو “إسرائيل” تقف منها موقفًا عدائيًّا.

ويكمن الإشكال في الاستدلال بهذه المقولة في جعلها قانونًا مطّردًا يتمّ تعميمه على كلّ الحالات والوقائع والمواجهات؛ وهذا غير صحيح ويدحضه الواقع المعيش كما تنقضه حركة التاريخ، بل تدلّ النصوص الشرعية التي ينبغي أن تكون هي موضع الاستدلال على خلافه.

فقد بينت نصوص القرآن الكريم على أن قوى الباطل قد تتقاتل وتتصارع فيما بينها، بل إن صراع الباطل البينيّ يكون شديدًا للغاية، وقد قال الله تعالى في وصف أهل الباطل حينَ يتصارعون فيما بينهم: {بأسهم بينهم شديدٌ}.

وكذلك فإن الاستدلال باطل أيضًا من جهة الواقع؛ فإن القوى الموصومة بالباطل ما فتئت تتصارع فيما بينها، لا سيما في عالم اليوم الذي تتصارع فيه القوى الكبرى بحثًا عن مصالحها.. فمنذ مئة سنة وقوى الأرض تتصارع فيما بينها في حروبٍ عسكرية عالمية، أو حروب باردة يستعلي فيها الباطل بعضه على بعض.

وكذلك فإن حركة التاريخ تنقض هذا الاستدلال، وتؤكّد صراع الباطل مع الباطل، وأن الباطل يقتل بعضه بعضًا، ابتداءً من حروب الإمبراطوريات العظمى – كالفرس والروم- فيما بينها، وهو صراع جليّ بين الباطل والباطل. وإن ترسيخ هذا الخطاب، والاستدلال بهذه القاعدة، وجعلها عنوانًا من عناوين معرفة الحق، هو خدمة مجانية يقدّمها مستخدمو هذه العبارة من الدعاة والإسلاميين للغلوّ الذي يسعى إلى اكتساب مشروعيّته الشعبية من فكرة استعداء أهل الباطل وتحالفهم ضده، وهذا يستدعي مراجعة خطابنا التعبويّ ومنهجيتنا في التقييم والاستدلال على الحقّ؛ فالحق يُستدلّ عليه بالحق، ولا يُستَدلّ على الحقّ بالباطل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...