عن التقاعد والقعود

بواسطة | مايو 15, 2024

بواسطة | مايو 15, 2024

عن التقاعد والقعود

في عام 2000 قام فريق طبي بريطاني، بإجراء دراسة مسحية شملت الآلاف من المواطنين، اتضح من خلالها أن متوسط عمر الإنسان في بريطانيا 77 سنة، وبعدها بعشرين سنة ارتفع متوسط العمر الى 81 سنة؛ وأفاد نصف من تم استطلاع آرائهم ممن هم فوق الستين أنهم لا يحسبون أنفسهم كبار سنّ أو عجزة بأي قدر، ولا يشعرون أنهم كذلك، بل إن نحو 70% ممن تجاوزوا سن الستين في عام 2020 كانوا يشغلون وظائف تدر عليهم رواتب ومداخيل ثابتة، وإن كان كثيرون منهم قد أحيلوا إلى التقاعد من وظائفهم الأصلية، حيث سن التقاعد المنصوص عليه في قوانين الخدمة.

وفي هذا يقول الطبيب الروسي سيرغي شيربوف، المتخصص في طب الشيخوخة، إن معايير التقدم في العمر ستظل في تغيُّر مستمر في ظل توفر وسائل العيش الصحي والخدمات الطبية المتقدمة… فشخص في الستين اليوم يُعتبر في منتصف العمر قياسا بأسلافه، بينما كان الستّيني قبل مئتي سنة مُسنًّا شائخا (فعلا وليس مجازا).

وانظر حكاية جون غوديناف، وهو أمريكي لا يعرف عنه بنو وطنه كثير شيء، لأن الأضواء لا تُسلَّط إلا على كبار الساسة والعاملين في مجالات السينما والتلفزيون والموسيقا.. غوديناف هذا إنسان بسيط يعيش على راتبه الشهري، رغم أن شركة سوني وغيرها من الشركات الصناعية، بنت أمجادها على اختراعه لبطارية الليثيوم، التي أحدثت ثورة في عالم التكنولوجيا، وصارت مصدر الطاقة للهواتف والكاميرات والكمبيوترات وغيرها.

غوديناف، الأستاذ بجامعة تكساس في أوستن حتى وفاته مؤخرا، فاجأ العالمَ مجددا أيضا بتطوير بطارية ذات قعر معدني، تحتفظ بثلاثة أضعاف الطاقة التي تحتفظ بها بطارية الليثيوم، أي إنها تبقى مشحونة لمدة طويلة، ما يعني أنها ستؤدي إلى طفرة في التحول إلى السيارات الكهربائية بالكامل، لأن السيارة تستطيع أن تقطع بها نحو ألف كيلومتر دون أن تحتاج إلى إعادة شحن، وحتى إعادة شحن هذه البطارية لا يستغرق سوى دقائق.

ومعظم شركات السيارات العالمية – على رأسها شركة تسلا – تنتج سلفًا سيارات كهربائية مزودة بنظام هجين، بحيث تعمل بالوقود النفطي إذا نفدت طاقة بطارية الكهرباء، في حين أن بطارية غوديناف ستلغي الحاجة إلى وجود خزان وقود احتياطي في أي سيارة، لأنها تستمر في توليد الطاقة اللازمة لجعل السيارة تنطلق لعشر ساعات متواصلة (لمن يقود السيارة بسرعة 100 كيلو في الساعة)؛ وهذه البطارية ستمثل ثورة صناعية ذات طعم خاص، فالطاقة الكربونية من نفط وغاز وفخم يمكن تخزينها وحرقها عند اللزوم، في حين أن ما يسمى بالطاقة المتجددة (الشمس والرياح) لا تتوفر إلا حسب الحالة المزاجية للمناخ، أمّا هذه البطارية فتبقى فاعلة ومتجددة على الدوام، ولا تنتج أي ملوثات للهواء.

ما استوجب الإتيان بذكر جون غوديناف هنا، هو أن اختراعه الأخير جاء وعمره 94 سنة، وفي هذا رسالة مهمة لأنظمة الخدمة العامة في الدول العربية، التي يُحال الناس فيها بموجب نصوص لوائحية إلى الأرشيف بمجرد بلوغ الستين، أو الخامسة والستين، فلا يهم أن المهني – مثلا- في تلك السن يكون قد اختزن في سنامه تجارب نحو 40 سنة في مجال عمله، وصار أكثر استعدادا للعطاء، بل المهم أن يتقاعد ليفسح المجال لغيره ليترقّى وظيفيا، لأن الخدمة العامة عندنا مجال خيري، تحشر فيه الحكومات مئات الآلاف والملايين، ليتسنى لها الزعم بأنها خلقت وظائف جديدة، وخفّضت معدلات البطالة.

رونالد ريغان خاض الانتخابات الرئاسية الأمريكية وعمره 70 سنة، وبيتر روجيه ثيسوراس كان مدرسا حتى تقاعد وهو فوق الستين، وكان مصابا باضطراب الوسواس القهري، الذي يجعل التفكير مشوشا، فيقوم المصاب بتكرار فعل ما عشرات المرات، مثل غسل اليدين وإعادة عدّ الأشياء ونتف شعر الجسم، وقاده ذلك الاضطراب المرضي إلى الهوس بمترادفات مفردات اللغة الإنجليزية، فأنتج أشهر قاموس (روجيه ثيسوراس) الذي صدرت منه عشرات الملايين من النسخ، وصار مرجعا لكل دارس متعمق في الإنجليزية، أو عامل في مجال الترجمة من الإنجليزية وإليها.

وهل منا من لم يتعامل مع دجاج كنتاكي المقلي بالزيت، بل ويدمنه، ولا يعرف لأي نوع من الدجاج المطبوخ مثل مذاقه؟ خاض الكولونيل ساندرز تجربة تسويق ذلك النوع من الدجاج المتبل بوصفة معينة، وهو فوق الستين، ولم يجد الرواج لسلعته في عشرات المحلات التي افتتحها هنا وهناك، ولكنْ وببلوغه السبعين كان دجاج كنتاكي قد انتشر في جميع القارات.

وبالمقابل، فعندما تكون من جماعتنا وتبلغ الستين، وتحاول أن تمارس عملا ما بانتظام، يقولون لك: كفى، واسأل الله حسن الخاتمة.. اجلس على سجادة الصلاة، واصرف ما تبقى من عمرك في العبادة!! بينما الإنسان العاقل مُطالب بالسعي لحسن الخاتمة منذ أن يبلغ الرشد، بل الأجدى والأكثر نفعا أن يتم حث الشباب على تجويد الصلاة والعبادات عموما، لأن الشاب أكثر ميلا للطيش والنزق.

فرغم أننا قدريون، فإننا نتصرف بعقلية أن الإنسان يكون “مرشحا للموت” بعد سن الستين؛ ولهذا فإننا – ونحن نحسب أننا نترفق بكبار السن منا إذ نطلب منهم أن يكفوا عن الحركة والنشاط-  نريد أن يتخلى هؤلاء عن مبدأ “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا”، وأن يركزوا فقط على دعم رصيدهم ليوم الحساب العظيم. ونحن قوم أكرمنا الله بمنظومة أخلاقية، تجعلنا نبرّ الوالدين ونوقر الكبير، ومن باب التوقير هذا فإننا – وكما لوائح الخدمة العامة عندنا- نريد لكبار العائلة أن يتقاعدوا عن النشاط العام.

وفي قاموس المعاني: قعَّدَ يُقعِّد تقْعيدًا، فهو مُقَعِّد، والمفعول مُقَعَّد.. قَعَّدَهُ عن العمل: حَبَسه عنه؛ قَعَّدَ أباه: أَقْعَدَهُ، بمعنى كَفاه شِدَّة العمل والكسب. والشاهد هنا هو أن كلمة تقاعد نفسها “محبطة”، فكيف بها إذا اقترنت بالحث على الكف عن الحركة؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...