عن العامية وما لها وعليها

بواسطة | يوليو 5, 2023

بواسطة | يوليو 5, 2023

عن العامية وما لها وعليها

صارت قنوات تلفزة عربية تجارية كثيرة منابر للغو واللقلقة باللغة العامية، لأنها لغة لا تتطلب جهدا لبلوغ مرحلة “التجويد” فيها؛ بل إنك لا تسمع قط عبارة “فلان يجيد العامية”، فكم من شخص في عمر سبعة أعوام يتحلى بطلاقة اللسان، وهو يتكلم بلغة الحياة اليومية، وقد يبلغ ذلك الشخص سن السبعين دون أن يحوز “فصاحة اللسان”.
واللغة العامية “قاصر”، ولكن دون أن يعني ذلك أن من يتواصلون بها “قُصَّر” بأي معنى أو مستوى، فالتواصل اليومي بين الملايين يتم بالعامية، لأنها سهلة وخالية من القيود النحوية والمفردات الحوشيَّة؛ وستظل العامية لغة الأنس والتفاهم بين الناس، ولكنها يستحيل أن تصير أداة مجدية لإيصال المعارف والعلوم؛ بل هي قاصر حتى في التعبير الدقيق والصحيح عن أمور عادية في الحياة اليومية، لأنها تميل إلى تبسيط حتى ما هو بسيط أصلا، وقد يكون ذلك على حساب المعنى المراد إيصاله؛ ولأنها، وبعكس الفصحى، تفتقر إلى فرسان يصوبون الخطأ، ويردون المفردات إلى أصولها وجذورها.

لا توجد في المغرب أو في غير المغرب لهجة عامية واحدة متفق عليها، بل تتقارب اللهجات وتتباعد من إقليم إلى آخر داخل كل دولة

قبل نحو ثلاث سنوات دعا رجل الأعمال المغربي نور الدين عيوش، إلى اعتماد العامية المغربية لغة للتدريس، وتم تضمين تلك الدعوة في توصيات صدرت عن ندوة دولية نظمتها مؤسسة “زاكورة للتربية” التي يملكها عيوش، تم رفعها إلى الديوان الملكي ومجلس الوزراء. ومنذ عقود دعا الشاعر اللبناني سعيد عقل إلى جعل اللغة المحكية في بلاده لغة التدريس والعمل الرسمي، بحيث يتخلص لبنان تدريجيا من اللغة الفصحى؛ والغريب في الأمر أن عقل بنى مجده بكتابة شعر جميل بالعربية الفصحى!. وضج لبنان بجدل صاخب حول مقترح عقل، ولكن المقترح نفق، وانشغل اللبنانيون بأمور أكثر أهمية مثل القتل على الهوية، والبحث عن أوطان بديلة.
أما إذا أردت تبيان العجز التام للعامية عن إيصال العلوم والمعارف على نحو دقيق، فعليك أن تتخيل التطويل والمطَّ الذي يلجأ إليه المدرس لتلخيص نظرية فيثاغورس عن المثلث قائم الزاوية، والقائلة: “إن مربع طول وتر ذلك المثلث يساوي مجموع مربعي طولي الضلعين الآخرين”. وكي تلقم دعاة تدريس المواد الأكاديمية في هذا البلد العربي أو ذاك باللهجات العامية حجرا، اسألهم أن يلخصوا قانون الطفو لأرخميدس في بضع كلمات، كما هو الحال مع الفصحى التي فيها: إذا كان الجسم مغمورا كليا أو جزئيا في سائل لا يذوب فيه ولا يتفاعل معه؛ فإن السائل يدفع الجسم بقوة (قوة الطفو)، وهذه القوة تساوي وزن السائل الذي يزيحه الجسم عند غمره.
ولا توجد في المغرب أو في غير المغرب لهجة عامية واحدة متفق عليها، بل تتقارب اللهجات وتتباعد من إقليم إلى آخر داخل كل دولة؛ وبالتالي، رغم أنني سوداني مُزمن فإنني لا أفهم كلام سودانيين مثلي عندما يتكلمون العربية بلهجة مناطقهم وقبائلهم!. (خذ مثلا: “البار” في جزء من غرب السودان لا يعني الخمارة/ الحانة، بل “الأبقار”)، ولطالما تعرض أطباء أسنان سودانيون حديثو عهد بمنطقة الخليج للطعن في كفاءاتهم، بل وقواهم العقلية، لأن الواحد منهم يقول لمريضه الخليجي: “لو سمحت افتح خشمك”، فيكون رد فعل المريض أن يسال الطبيب: وش فيك؟ الأسنان عندكم في السودان تكون في الخشم!. ذلك أن “الخشم” عند أهل السودان وأجزاء من جنوب مصر هو الفم، بينما هو عند الخليجيين (وهم على حق) هو الأنف.

العامية ستبقى ما بقي بشر ينطقون، بل ستبقى قريبة من الوجدان العام أكثر من الفصحى، بدليل أن الشعر العامي (الشعبي ـ النبطي)، وخاصة المُغَنّى منه، أكثر شيوعا في زماننا هذا من الشعر الفصيح.

ومعلوم أن العربية العامية سهلة التَعَلُّم، لأن الإنسان يلتقطها وهو في المهد، ثم تزداد حصيلته منها بمرور الزمن، ويتم الإلمام بقواعد التحدث بها دون حاجة إلى معلم أو مدرسة، بل إن تعلمها يتم خارج أسوار المدارس؛ وتتفق معظم العاميات العربية على الالتزام بقواعد التذكير والتأنيث للمخاطب المفرد والمخاطبة المفردة، إلا أن مخاطبة جماعة الإناث تتم في معظم العاميات العربية بصيغة التذكير “تعالوا يا بنات”؛ هذا إلى جانب غياب التثنية في العامية.
لكل لغات العالم لهجات عامية، وفي بريطانيا حيث سيدة اللغات التي تسيَّدت الساحة الدولية، ألا وهي الإنجليزية، لا يفهم أهل مانشستر كلام أهل لندن، ولا يفهم سكان ليفربول كلام ساكني نيو كاسل، ومن ثم فإن التدريس في بريطانيا يكون بما يسمى (ستاندرد إنجليش) أي: الإنجليزية المعيارية القياسية، وهي “الفصحى”؛ بينما أشبع الأمريكان معمار اللغة الإنجليزية تهشيما ليحصلوا على ما أسموه “إنجليزي أمريكاني”.
وعلى كل حال، إن العامية ستبقى ما بقي بشر ينطقون، بل ستبقى قريبة من الوجدان العام أكثر من الفصحى، بدليل أن الشعر العامي (الشعبي ـ النبطي)، وخاصة المُغَنّى منه، أكثر شيوعا في زماننا هذا من الشعر الفصيح. ولكن، أن تصبح العامية أداة وقناة للعلم والتعليم، فهذا فيه قولان ليسا في صالحها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...