عن العنف المؤسسي والشعبي الأمريكي

بواسطة | ديسمبر 6, 2023

بواسطة | ديسمبر 6, 2023

عن العنف المؤسسي والشعبي الأمريكي

اكتسب الأمريكان مهارات فائقة في تصوير أنفسهم كدعاة للتحضر والتمدن، وكرعاة للسلام العالمي، بينما حقيقة الأمر هي أن العنف عنصر أساسي في جينات الدولة الأمريكية، بدليل أنها خاضت مباشرة أو بالتدخل غير المباشر اثنتين وخمسين حربا في مختلف القارات، ولم تخض قط حربا دفاعا عن أراضيها، لأنها لم تتعرض قط لغزو خارجي، بل وحتى الحرب التي قد يحسب بعضهم أنها دارت على أرض أمريكية، كانت في واقع الأمر غزوا أمريكيا لأراضي المكسيك، انتهى بأن انتزعت الولايات المتحدة من المكسيك ما صارت تُعرف اليوم بولايات تكساس وكاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو وأجزاء من ولايتي كولورادو ووايومنغ.
أما الحرب التي دارت رحاها على الأراضي الأمريكية، فقد كانت بين عامي 1861 و1865، بين الولايات الشمالية والجنوبية، وشارك فيها ثلاثة ملايين جندي، هلك نصف المليون منهم، وكان السبب الرئيس في إشعالها قرار الحكومة المركزية في واشنطن إلغاء الرق، الأمر الذي رأت فيه الولايات الجنوبية خطرا على اقتصادها، الذي كان يقوم على الزراعة، التي كان قوامها سخرة العبيد الذين تم جلبهم من أفريقيا.
فلا عجب إذاً أن يصفق حكام أمريكا اليوم لعمليات الإبادة التي تمارسها وكيلة أعمالها في الشرق الأوسط (إسرائيل) في غزة، ولا أن تضخ 37 مليار دولار في ميزانية تسليح أوكرانيا، حتى تتمكن من دحر الغريم الأكبر للولايات المتحدة (روسيا)، فالولايات المتحدة مجبولة على العنف حكومة وشعبا؛ وتشير التقديرات إلى أن المدنيين الأمريكيين يمتلكون 393 مليون سلاح ناري، وأن نحو 42% من الأسر الأمريكية لديها قطعة سلاح واحدة على الأقل. ومن ثم فإن الولايات المتحدة فيها أعلى نسبة امتلاك للسلاح الشخصي في العالم بمعدل 120.5 سلاح لكل 100 شخص.
ومن ثم فلا عجب أيضا في أن كبريات المدن الأمريكية هي الأخطر في العالم على سلامة الإنسان، ولا عجب في أن السجون الأمريكية هي الأكثر اكتظاظا بالـ”سكان” في العالم، فهناك اليوم أكثر من مليوني نزيل في السجون، بل إن الولايات المتحدة هي صاحبة المرتبة الأعلى في العالم بنسبة عدد السجون إلى عدد السكان (1566 سجنا في الولايات، و98 سجنا اتحاديا مركزيا، و3116 سجنا محليا، و1323 مركزا لاحتجاز القصر، و181 سجنا لاحتجاز المهاجرين غير القانونيين، و80 سجنا خاصا بالهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، هذا بخلاف السجون العسكرية وتلك المخصصة للمدانين في القضايا المدنية).
وفي الولايات المتحدة المعاصرة هناك جنجويد (أستعير هنا التسمية السودانية للعصابات الإجرامية التي تمارس القتل والنهب من منطلقات عرقية)، واستهداف السود في الأراضي الأمريكية على أيدي الجنجويد البيض بدأ منذ نحو 180 سنة، فرغم أن البيض هم من استورد السود بقوة المال والسلاح، ورغم أن النهضة الاقتصادية الأمريكية منذ مطالع القرن التاسع عشر كانت بعرق ودماء أولئك السود، فقد كان جزاء إحسانهم في تعريضهم للإذلال وقتلهم بدم بارد، من أجل “المتعة” أحيانا.
ولعل أشهر جنجويد أمريكا هي منظمة كوكلاكس كلان التي ولدت عام 1860، وابتدعت ما يعرف في التاريخ الأمريكي بـ (lynching)، وهو الإعدام خارج نطاق القانون، شنقا أو بـ”الاصطياد” بالبنادق، أو في أحوال كثيرة، بوضع دولاب سيارة مطاطي حول الأسود المراد إعدامه، وإشعال النار فيه ليركض مولولا حتى يحترق بالكامل، وسط التصفيق والضحك الصخاب.
وفي الولايات المتحدة اليوم 48 مليشيا عنصرية مسلحة، قامت بتوسيع دائرة المغضوب عليهم من غير البيض لتشمل اللاتينيين (السمر) أي الوافدين من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، وتعمل تحت سمع وبصر السلطات الأمنية الرسمية، وتمارس التدريبات في الرماية والطوابير العسكرية علنا وفي مضامير خاصة بها، وقد شوهد بعض عناصرها وهم يمارسون النشاط الجنجويدي في مواجهة المحتجين، الذين خرجوا بالملايين إلى الشوارع والساحات، رفضا للفصل والاضطهاد العنصري الذي يستهدف السود، بعد مقتل جورج فلويد خنقا من قبل ضابط شرطة أبيض جثم على عنقه بركبته حتى أسلم الروح، في 25 مايو 2020، واتضح أثناء التحقيق في الحادث، أن لذلك الضابط سجل حافل في استخدام العنف المفرط بحق السود المشتبه بهم في جنح بسيطة.
وفي الولايات المتحدة اليوم ستة أحزاب نازية، أشهرها وأشرسها رابطة الأخوة الآرية في ولاية تكساس، وجميعها أجندتها وأنشطتها معلنة، وتعمل على تنقية الجنس الأبيض من الشوائب المتمثلة في وجود السمر والسود في “أرض البيض”، وهذه الأحزاب مسنودة بقساوسة يلوون أعناق نصوص الإنجيل، ليجعلوا من التمييز على أساس العرق واللون واجبا دينيا مقدسا.
وكما أن جنجويد دارفور في السودان كانوا مسنودين بقوات نظامية، فإن المليشيات الجنجويدية في الولايات المتحدة لها حلفاء يدعمونها على نحو مكشوف، أو يتسترون على جرائمها في أوساط الشرطة، وكان صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة مكسبا كبيرا للعنصريين وغلاة اليمينيين، لأنه لم يُخفِ قط أنه واحد منهم، وبلغت به الوقاحة أنه، وتعقيبا على مشهد رجل شرطة يدفع شيخا سبعينيا كان يسير منفردا على جانب من الطريق إلى الأرض، ما أدى إلى شج رأسه ونزفه، قال ترامب إن الرجل “بالغ” في أمر السقطة، بمعنى أنه كان يُمثِّل، ولم يكلف نفسه عناء شرح كيف يمثل شخص حدوث شرخ في رأسه وتدفق الدم منه.
ما يسمى باليمين المسيحي في الولايات المتحدة، وهم حماة وسدنة الحزب الجمهوري، يديرون مؤسسات إعلامية ضخمة تبث خطاب الكراهية العنصري، وتعضد جرائم الجنجويد البيض بتوفير غطاء وتبرير ديني لها، وهي من أوحت لجورج بوش الابن أن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية أمر من السماء، ولعل كثيرين منا رأوا نفرا من القساوسة التبشيريين وهم “يرقون” ترامب داخل البيت الأبيض، كي يحميه الله من الكورونا ومن كيد الحزب الديمقراطي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...