عن “براكين” المنطقة التي لا تهدأ

بواسطة | نوفمبر 16, 2023

بواسطة | نوفمبر 16, 2023

عن “براكين” المنطقة التي لا تهدأ

تستمر المنطقة العربية في تشهد صراعات ونزاعات تاريخية، حيث يبدو أن عدم الاستقرار أصبح الوضع الطبيعي. يتساءل الكثيرون عن الأسباب وراء هذه البراكين السياسية والاضطرابات المستمرة. يمكن تحليل هذه الوضعية من خلال ارتباط ضعف البنية البنيوية للدول العربية بالتدخلات الخارجية المستمرة في شؤون المنطقة.

صراعات المنطقة العربية: بين براكين التاريخ والتدخلات الخارجية

لم تشهد منطقة أخرى من العالم ما شهدته منطقتنا، ولا تزال، من صراعات ونزاعات وحروب إلى الدرجة التي أصبح فيها عدم الاستقرار هو الأصل وما دونه استثناء. فمنذ مئة عام على الأقل والمنطقة العربية تعيش على صفيح ساخن، وتنتقل من أزمة لأخرى؛ ولا يكاد يخلو عقد واحد من وقوع أزمة هنا، وحرب هناك، وهو ما يدفع المرء للتوقف والسؤال: لماذا يحدث كل هذا؟ ولماذا لم تنعم هذه المنطقة بالاستقرار منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا؟

فمنذ الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، التي اندلعت في أوروبا، ودفعنا ثمنها نحن العرب حين دخلنا حرباً لا ناقة لنا فيها ولا جمل، والأزمات والكوارث تترى لا تتوقف، وتتكرر تقريبا كل عشرة أعوام، وذلك منذ من سقوط (أو إسقاط) الخلافة العثمانية عام ١٩٢٤، وانشطار أراضي الخلافة إلى دول وكيانات صغيرة محتلة من قبل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها. ولا يكاد يخلو عقد إلا وهناك أزمة، أو حرب، أو انتفاضة، أو كارثة تحل بديارنا؛ فبعد عقد ونيف من سقوط الخلافة اشتعلت الانتفاضة الحقيقية الأولى في فلسطين عام ١٩٣٦ التي يسميها البعض بالثورة الكبرى، لمجابهة الاحتلال البريطاني والمطالبة بالاستقلال الوطني، واستمرت الانتفاضة حتى عام ١٩٣٩ إذ تم قمعها بشكل كبير، خاصة بعد غياب الشيخ عبد القادر الحسيني وخروجه من البلاد، بعد إصابته أواخر عام ١٩٣٨.

وبعد حوالي عقد جاء الإعلان عن قيام دولة إسرائيل منتصف مايو ١٩٤٨، ما أدى لاندلاع الحرب بينها وبين الجيوش العربية، وانتهت إلى استيلاء إسرائيل على فلسطين التاريخية ونزوح ما يقرب من 800 ألف فلسطيني في ما بات يُعرف بالنكبة، حيث لم يعودوا لبيوتهم وقراهم حتى اليوم. وبعد ذلك بأقل من عشر سنوات وقعت حرب 1956 بين مصر من جهة وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، في ما يُعرف بالعدوان الثلاثي على مصر، بعد تأميم مصر لقناة السويس.

بعد ذلك لم يمر سوى أحد عشر عاماً حتى وقعت حرب الخامس من يونيو/ حزيران عام ١٩٦٧، وخلال ستة أيام من الحرب كانت إسرائيل قد احتلت أكثر من ضعف مساحتها عام ١٩٤٨، حيث احتلت سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية وهضبة الجولان السورية.  وفي عام ١٩٧٣ نجحت مصر في تحرير سيناء بعد حرب أكتوبر من ذلك العام، وبعدها بعدة سنوات وقّعت اتفاقية للسلام مع إسرائيل وخرجت بعدها من الصراع العربي – الإسرائيلي إلى غير رجعة.

وفي أوائل العقد التاسع من القرن العشرين، اندلعت الحرب بين إيران والعراق واستمرت حتى أواخر الثمانينيات، وكانت إيران قد نجحت ثورتها قبل ذلك بسنوات أواخر السبعينيات. وفي العقد نفسه أيضا قامت إسرائيل بغزو لبنان عام ١٩٨٢، وذلك للتخلص من منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتخذ من بيروت مقراً لها، وتم احتلال جنوب لبنان لنحو عقدين حتى انسحبت إسرائيل منه عام ٢٠٠٠.
وفي الثاني من أغسطس عام ١٩٩٠ وقع الغزو العراقي للكويت، والذي كان علامة فارقة في النظام الإقليمي العربي الذي انهار وسقط منذئذ، قبل أن يتم غزو العراق عام ٢٠٠٣ وإسقاط نظام صدام حسين على أيدي القوات الأمريكية، التي استمرت هناك لعقد أخر. وفي أواخر ذلك العقد اندلعت انتفاضات الربيع العربي ابتداءً من تونس، لتمر بعدها بمصر وليبيا وسوريا واليمن أوائل عام ٢٠١١، وهي التي أدت إلى كثير من التطورات والتحولات الجيوسياسية في العالم العربي، وذلك حتى وصلنا للنقطة الحالية في أكتوبر ٢٠٢٣ واندلاع أكثر الحروب دموية في المنطقة ضد الشعب الفلسطيني، الذي يواجه نكبة ثانية تجري يوميا بالصوت والصورة، ويشاهدها العالم على الهواء مباشرة.

إذاً، كما قلنا في صدر هذا المقال، لم تهدأ هذه المنطقة أبدا طيلة القرن الماضي، وكأنها منطقة “براكين” سياسية وجيواستراتيجية قلبت الأوزان السياسية لكافة البلدان طيلة العقود الماضية. وهو ما يدفع للسؤال: كيف نفسر هذه البراكين والانفجارات؟ باعتقادي أن ثمة سببين أساسيين لهذه المسألة، وهما مرتبطان أحدهما بالآخر بشكل وثيق.

السبب الأول هو الضعف البنيوي الكامن في الدولة العربية التي نشأت أوائل القرن الماضي؛ فهذه الدولة لم تولد بشكل طبيعي، ولم تأت نتيجة لمخاض عقد اجتماعي حقيقي، كما كانت الحال في أوروبا عام ١٩٤٨ بعد صلح ويستفاليا، وإنما تم فرضها بشكل أو بآخر من قبل نخب حداثية لا تتمتع بكثير من الرضا والقبول والشرعية بين أبناء بلادها؛ أي أن تلك الدولة وُلدت بالأساس ككيان مشوّه وهشّ، لا يتمتع بفرص قوية للحياة الطبيعية، وذلك لسبب بسيط ولكنه على درجة عالية من الأهمية، وهو أن أهم طرف في بناء هذه الدولة، وهو الشعب، تم استبعاده أولا واستعباده لاحقا في عملية بناء هذه الدولة؛ ولذلك فإن هذه الدولة لا تبحث عن شرعيتها في الداخل، وإنما تصبو إليها دوما من الخارج. وهنا يأتي السبب الثاني وهو التدخل الخارجي في المنطقة العربية، والذي لم يتوقف منذ قرنين على الأقل، وإن كان قد أخذ أشكالا وطرقاً مختلفة؛ فبعد خروج الاحتلال الأجنبي من بلاد العرب، عاد في شكل احتلال فكري وثقافي واقتصادي، ويأخذ الآن شكل احتلال اجتماعي وتكنولوجي وترفيهي. ولم تسلم المنطقة العربية طيلة القرن الماضي من أشكال مختلفة للتدخل الخارجي، سواء أكان تدخلا خشنا من خلال الحروب والصراعات والنزاعات والاحتلالات، أو كان احتلالا ناعما عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام الجديد؛ وقد كشفت عملية المقاطعة التي تقوم بها قطاعات من الشعوب العربية للشركات الأجنبية الداعمة لإسرائيل، حجم الاعتماد الكبير على الخارج في حياتنا اليومية.

وأغلب الظن أن المنطقة ستظل دوما على فوهة “براكين نشطة”، وستندلع الحروب والأزمات كما جرت العادة طيلة القرن الماضي، وذلك إلى أن تتم معالجة هذين السببين من جذورهما.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...