عن بطانة “المستبد العربي” التي تجدّد استبداده

بواسطة | مايو 4, 2023

بواسطة | مايو 4, 2023

عن بطانة “المستبد العربي” التي تجدّد استبداده

لا تبدو السياسة اليوم في العالم العربي، مفهوما وممارسة، أفضل حالا مما كانت عليه قبل مئة عام، حين وقعت معظم الدول العربية في براثن الاحتلال الأجنبي، وما لحقه بعد ذلك من هيمنة وسيطرة الأنظمة المستبدة على المجتمعات العربية. وحين تقرأ ما كتبه المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي في سِفره المعروف “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” تشعر وكأنه كُتب بالأمس، لا قبل قرن ونيف.
يعرّف الكواكبي السياسة بأنها “إدارة الشؤون المشتركة بمقتضي الحكمة”، وهي بالنسبة له المقابل النافي للاستبداد الذي يعرّفه، ضمن تعريفات أخرى، بأنه “التصرّف بالشؤون المشتركة بمقتضي الهوى”. أما مصدر الاستبداد بالنسبة للكواكبي فهو “غفلة الأمة وتقاعسها عن محاسبة الحاكم، مستعينة بجهالة الأمة والجنود المنظمة”؛ فالمستبد، بحسب الكواكبي، يود أن تكون رعيته “كالغنم دُرّا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا”.
كان الكواكبي يصف استبداد الدولة العثمانية، خاصة في المشرق العربي، ويراه سبب تخلف المسلمين وانحطاطهم؛ ولم يعش الكواكبي ليومنا هذا كي يرى ما وصل إليه حال بلداننا العربية ونخبها الحاكمة. ربما لم يكن “الكواكبي” يدافع عن الديمقراطية بمعناها الدارج والمعروف حاليا، والتي سمّاها الشورى الدستورية، وإنما يدافع بالأساس عن وجود حكومة منتخبة مقيّدة من الشعب، وتعمل لخدمة مصالحه، لا لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة وحاشيتها المنتفعة. والكواكبي هو الذي وضع ما يبدو كأنه “وصفة” أو طريق للخروج من الاستبداد والتخلص منه، من خلال تعريفه لمفاهيم الأمة والحكومة والحقوق والمساواة…إلخ.

فُزعت ذات مرة، حين كنت أدرّس لطلابي، بأن جاءني أحد الطلاب العرب مدافعا عن الاستعمار ومآثره التي تركها للعالم العربي، بل ويرى، بدون شعور بالخطأ، أن “عودة الاستعمار” قد تكون السبيل الوحيد لنهوض العرب.

ليس الهدف هنا استعراض كتاب “طبائع الاستبداد”، أو تبيان أهميته، بقدر ما هو المقارنة بين أوضاعنا قبل مئة عام وما نعيشه الآن. والمؤكد أن سياسيي العرب لم يقرأوا “الكواكبي”، أو قرأوه وخبروه، ولكن لم يلتزموا به. ولا ينطبق الأمر على “الكواكبي” فحسب، فكتابات الكثيرين من المفكرين العرب الأوائل، كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد، وأحمد أمين وعباس العقاد وغيرهم، لم تجد آذانا صاغية لدى النخب التي حكمت العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال؛ بل على العكس، نجحت الأنظمة العسكرتارية في تشكيل نخبها المثقفة التي برّرت سياساتها واستبدادها، وساهمت في تكريس حالة الارتكاس السياسي إلى الدرجة التي يترحم فيها البعض، ويا للمفارقة، على مرحلة الاستعمار.
ولا يقتصر الأمر فقط على بعض المثقفين (أو مدّعي الثقافة)، وإنما يشمل أيضا قطاعات من الشباب الذين تعرضوا لعملية غسيل أدمغة، قلبت الأمور وخلطت المفاهيم. وقد فُزعت ذات مرة، حين كنت أدرّس لطلابي، بأن جاءني أحد الطلاب العرب مدافعا عن الاستعمار ومآثره التي تركها للعالم العربي، بل ويرى، بدون شعور بالخطأ، أن “عودة الاستعمار” قد تكون السبيل الوحيد لنهوض العرب. ومؤخرا سمعت من صديق يدرِّس العلوم السياسية بإحدى الجامعات العربية حين سأل طلابه عن أي الدول العربية تتمتع بنظام حكم ديمقراطي حاليا، فأجابته إحدى الطالبات بأنها دولة الإمارات لأن لديها وزارة تسمّي “وزارة التسامح”، وهو ما جعل صديقي لا ينطق بكلمة من هول ما سمعه من الطالبة.
هكذا تدفع حالة الاستبداد السياسي، وانسداد الأفق أمام الشباب العربي، إلى البحث عن خلاص؛ كلٌ على طريقته وحسب هواه، حتى وإن كان ذلك باستجلاب الاستعمار مرة أخرى لبلادنا. نقول ذلك دون أن نغفل دور نخب عربية أخرى دافعت، وما تزال، عن حقوق الشعوب العربية في الحرية والكرامة والديمقراطية، بل وتدفع ثمن ذلك من حريتها وحياتها. وهي تفعل ذلك لا انطلاقا من رسالتها ومبادئها والتزامها الأخلاقي فحسب، وإنما أيضا باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد للخلاص من الوضع البائس الذي تعيشه مجتمعاتنا.
ويُسأل عن استمرار هذا الوضع، فضلا عن النخب الحاكمة، تلك الفئة من المثقفين الذين تماهوا مع السلطة ودافعوا، وما يزالون، عن جرائمها واستبدادها. وهي فئة موجودة منذ الاستعمار وحتى يومنا هذا، ولكن بوجوه وأسماء وألقاب جديدة. وهي لا تخجل من الجهر بسوءاتها في دعم السلطويات العربية، والتنظير لها، وتبرير أفعالها وسوءاتها. فتارة يتحدث أحدهم عن “المستبد المستنير”، وتارة أخرى يرى -على نحو ما قال أحدهم أخيرا- أن المشكلة “فينا” كشعوب، لا في الحكام الذين هم نتاج لتلك الشعوب.

ليس أخطر من الاستبداد سوى بطانته، وليس أسوأ من المستبدين سوى حاشيتهم، وكل من يدافع عن جرائمهم واستبدادهم.

تدرك هذه البطانة الفاسدة من أصحاب الرأي والفكر، أو النخبة بلغة العوام، أن بقاءها على قيد الحياة مرتبط ببقاء المستبدين في السلطة، وأن مصالحهم ومصائرهم مرتبطة ارتباطا عضويا بمصائر المستبدين. لذا، فهم حين يدافعون عن بقاء المستبد في الحكم، يدافعون عن أنفسهم وحياتهم ومصالحهم؛ وذلك دون اكتراث بمصالح ومصائر الشعوب. بل وقد يدّعي بعضهم أحيانا أنهم أكثر دراية من الشعب بمصلحته!.. كما يخشى هؤلاء المرجفون والمتملقون من انتقام المستبد منهم إذا ما توقفوا عن دعمه وتأييده، وهم يرون ما يحدث مع الأخرين الذين انقلب عليهم المستبد، وقام بفضحهم وتوريطهم في وقائع فساد مالي وأخلاقي.
ولذلك فليس أخطر من الاستبداد سوى بطانته، وليس أسوأ من المستبدين سوى حاشيتهم، وكل من يدافع عن جرائمهم واستبدادهم. وقديماً قال أفلاطون “إن الطغيان يقرّب بين الناس والآلهة، وسنرى الشعراء يطوفون البلاد واحدة تلو الأخرى، فيجمعون الجماهير، ويستأجرون أصحاب الأصوات الجميلة المقنعة، لكي يغروا الجماهير للأخذ بدستور استبدادي”.
لا عجب، والحال كهذه، أن نستمر في هذه الحلقة المفرغة من الاستبداد الدائم، الذي تغذيه نخب وفئات ترى فى الحرية والعدالة تهديدا كبيرا لا لمصالحها فقط، وهي كثيرة، وإنما لوجودها ذاته.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
Loading...