عن غوغائية الشعبويين

بواسطة | مايو 8, 2024

بواسطة | مايو 8, 2024

عن غوغائية الشعبويين

ابتلى الله العالم العربي على مدى نحو سبعة عقود، بزعماء شعبويين عملوا من البحر طحينة، كما يقول المصريون عن تصوير الأمر على غير حقيقته.. والشعبوية تعني اصطفاء عامة الناس لا النخب من قبل الحكام والساسة والأحزاب، والاصطفاء هنا لا يعني بالضرورة الانحياز لمصالح عامة المواطنين، بل يعني في غالب الأحوال مجرد الزعم بإيلاء قضايا المواطن العادي كل الاهتمام، ولهذا يعمد الشعبويون من اليمين واليسار إلى الخطابة المطولة لدغدغة وتهييج مشاعر الجماهير.

في ذات عام سأل الصحفيون الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي إن كان يعتزم حضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كانت مقررة للبتّ في قضايا تهم دول الشرق الأوسط، فقال ما معناه: تريدون مني أن اجتاز المحيط الأطلسي لأذهب إلى نيويورك، لأتكلم فقط لخمس دقائق ثم أعود؟ هذا لن يحدث.. وكانت تلك من اللحظات القليلة في مسيرته في السلطة، التي تحلى فيها بقدر معقول من الأمانة؛ ففي المرحلة التي حسب فيها أنه صار صاحب نظريات، مثل كارل ماركس أو آدم سميث، رأى القذافي أن الخطب الجماهيرية وحدها لا تكفي، فصار يقدم برنامجا تلفزيونيا مفتوح الأمد، يخوض فيه في كل شيء، مستعينا بالسبورة والطباشير.

رغم أن المناهج المدرسية في العالم العربي تميل إلى الإيحاء بأن الخطاب العام في عصور ما قبل الإسلام كان شعرا، فإنه من الثابت أن خطباء عربا كثيرين كانوا يعتلون المنابر ويخاطبون الناس نثرا، لأن النثر أكثر قدرة من الشعر على الخوض في التفاصيل، كما أنه من المتعذر ارتجال الشعر في منبر، وكما هو الحال حتى في عالمنا المعاصر، فإن النثر يسمح بترتيب الفِكَر وطرح مختلف الشؤون بلغة أكثر دقة من الشعر. ويحفظ التاريخ مكانة خطباء العصر الجاهلي أمثال قس بن ساعدة الإيادي، وعتبة بن ربيعة، وضمرة بن ضمرة، وعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة، وقيس بن خارجة بن سنان وغيرهم؛ بينما برع في الخطابة في العصر الإسلامي مصعب بن الزبير، وواصل بن عطاء، وإياس بن معاوية، وطارق بن زياد، ومالك بن دينار، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف الثقفي.

كي ينجح الزعيم الشعبوي في المجال التعبوي بتحريك عواطف المواطنين، ليلتفّوا أو يزدادوا التفافا حوله، لابد له من أن يملك تلك الجاذبية المسماة (كاريزما)، وفي التاريخ العربي المعاصر كان الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر هو من ابتدع الخطب الجماهيرية الطويلة، وبما امتلكه من طاقة كاريزمية هائلة كان قادرا على تحريك وتهييج الجماهير من المحيط إلى الخليج (بل هو من سكّ هذه العبارة)، إلى أن كانت هزيمة عام 1967 المدوية، وأسماها نكسة، وما زالت هذه التسمية سارية في الأدبيات العربية.

وكان الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو شعبويا من الطراز الأول، ولكن كان لديه ما يقوله على الدوام خلال المخاطبات الجماهيرية، خاصة فيما يتعلق بمعاداة الولايات المتحدة لبلاده، ولكنه كان يغمر إخفاقات حكومته بمعسول الكلام عن “غد أخضر”، والماركسيون يهدئون خواطر من يحاولون استمالتهم لفكرهم بمقولة إن النظرية رمادية والمستقبل أخضر؛ وعندما خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1960، ظل كاسترو يتجاهل النداءات بانقضاء المدة الزمنية المخصصة له، ولم يسكت إلا بعد أربع ساعات و29 دقيقة، وجاهد الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز في مجاراة كاسترو في الأساليب الشعبوية، فكان يرغي ويزبد في المنابر لساعات طوال متصلة، ونجح حتى في أن يُقنع كثيرين من العرب بأنه بطلهم المرتجى لتحرير فلسطين، بينما عانى شعبه من ويلات الفقر رغم عائدات النفط الهائلة.

ولم يعرف التاريخ قديمه وحديثه سياسيا شعبويا كالرئيس الأمريكي السابق – وربما اللاحق- دونالد ترامب، الذي يزعم في خطبه المرتجلة والنصيّة أنه نصير الضعفاء، ويكيل السباب للنخب ممثلة في أجهزة الإعلام والعدالة، لدرجة أنه ردّد مرارا أنه يحب من لم ينالوا حظا طيبا من التعليم (وهو بهذا يؤكد أنه يحب نفسه كثيرا، لأن حظه من التعليم بائس، ومن الثابت أنه كلّف طالبا آخر بالجلوس للامتحانات الأكاديمية الحاسمة نيابة عنه)، وبما أن ترامب ملياردير، فلا شك في أنه يلجأ إلى الشعبوية الغوغائية بدغدغة مشاعر البسطاء طلبا لأصواتهم في الانتخابات.

وهناك خوان بيرون الذي كان رئيسا للأرجنتين ما بين عامي 1946 و1955، ثم ما بين 1973 و1974، والذي يعتبر المثل الأعلى للزعماء الشعبويين، فقد قدم نفسه وزوجته إيفا، على أنهما نصيرا الطبقات الكادحة ويعملان على محو الفقر.. وكما أن هناك من رفع لواء الناصرية تأسِّيا بالزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، فهناك حتى في أرجنتين اليوم من يرفعون لواء البيرونية، بل فاز البيرونيون بعشر من الانتخابات الرئاسية الـ13، التي جرت في البلاد حتى الآن.

أما في بريطانيا، فقد كان أبرز الشعبويين في السنوات الأخيرة جيريمي كوربِن، الذي تولى قيادة حزب العمال البريطاني ما بين عامي 2015 و2020، وكان يرفع شعارات يسارية تَعِد العمال والكادحين بالمنِّ والسلوى ولبن الطير، ولكن شعبويته عادت عليه بخسران الانتخابات أمام شعبوي بزه غوغائية، هو بوريس جونسون، الذي قاد حزب المحافظين إلى نصر انتخابي أجلسه على كرسي رئاسة الحكومة عام 2019، وظل فيه لثلاث سنوات، قاد خلالها خروج بلاده من الاتحاد الأوربي، وما زالت بريطانيا فاقدةً التوازنَ الاقتصادي والسياسي منذ ذلك الخروج.

والشواهد أعلاه تؤكد أن الشعبوية ليست وقفا على اليمين دون اليسار، بل هي تكتيك غوغائي يقوم على التهويل من أمور معينة، والتهوين من أمور أخرى، ونحن في العالم العربي نعرف كيف استخدم طابور من القادة والزعماء القضية الفلسطينية كمخدر للجماهير لاستدامة حكمهم، عملا بنظرية كبيرهم معمر القذافي، الذي قال إن الديمقراطية أصلها عربي “ديمو- كراسي”، فوجد في ذلك تبريرا لديمقراطيته التي أدامت جلوسه على الكرسي 42 سنة حسوما.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...