“عن فلسطين”.. كتاب في مكانه وزمانه ولغته!

بواسطة | مايو 2, 2024

بواسطة | مايو 2, 2024

“عن فلسطين”.. كتاب في مكانه وزمانه ولغته!

أما الكتاب فهو “عن فلسطين”، الصادر بنسخته الأصلية بالإنجليزية في 17 مايو 2015، لكنه تُرجم إلى العربية ثم أعدّ للنشر – ويا للمفارقة- قبيل طوفان الأقصى بأيام قليلة، وصدر عن منشورات جدل في الكويت بعد الطوفان بأيام قليلة أيضا. ولأن غلاف الكتاب مصمم على شكل كوفية فلسطينية، في نسخته الأم وفي النسخة المترجمة إلى العربية، فقد بدا وكأنه منشور محلي منحاز للقضية، لولا أن الأسماء التي تتصدره مشهود لها بعلميتها وموضوعيتها العابرة للانتماء بكل أشكاله.

وتكمن أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية – وفق مترجمه الكويتي سالم الشهاب، في تقديمه للكتاب- لا في أنه يقدم “حلولاً ومعالجات للقضية الفلسطينية فحسب، بل حتى في تحليله واقع النزاع داخل المجتمع الإسرائيلي وصراعاته الطبقية؛ كذلك تكمن أهميته في عرضه مقاربة بين الحالتين جنوب الإفريقية والفلسطينية، على أنهما قضيتا صراع ضد الإمبريالية وأنظمة الفصل العنصري؛ كما يشارك كلاً من تشومسكي وبابيه تجربتهما داخل المجتمع الإسرائيلي وخارجه، وأهم التحولات التي طرأت على الرأي العام – الأمريكي بشكل خاص- في السنوات الأخيرة؛ بما في ذلك الأوساط الأكاديمية التي تبدو أكثر تقبلا للطرح المناهض لنظام الفصل العنصري من ذي قبل”.

ويبرز الكتاب كمسعى أدبي فريد من نوعه، لأنه يتيح استكشافًا غنيًا ومتعدد الأوجه للأفكار، من خلال النقاش التفاعلي الحر بين شخصيتيه الرئيستين (المفكر الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي والمفكر إيلان بابيه، وهو أكاديمي مولود “كإسرائيلي”! في حيفا بفلسطين المحتلة قبل أن ينتقل إلى بريطانيا)، والكتاب ذو نزعة يسارية طاغية، ما يسمح للقراء بقراءة الفكرة المتآلفة حول القضية الفلسطينية من منظورهما معاً، وهذا يساعدنا على التعامل مع النص نقدياً، ومواجهة الحقائق الصارخة التي يواجهها الفلسطينيون هذه الأيام بالذات.

سبق لفريق الكتاب نفسه أن صدر له كتاب آخر قارب الفكرة بعنوان “أزمة غزة.. تأملات في الحرب الإسرائيلية على فلسطين” في العام 2010، وتُرجم إلى العربية في العام 2012، لكن الفريق في الكتاب الجديد لا يستكمل فكرته الأولى بل يطورها في الحوار التفاعلي بديلا عن الفِكَر الجامدة والمعدة مسبقا للكتاب.

يقول بابيه وهو يشرح الفكرة الجديدة المنفتحة على قرّائها: “حين جلست أنا وفرانك بارات مع نعوم تشومسكي لنقاش طويل عن فلسطين، قمنا بتقسيم النقاش إلى ثلاثة أجزاء: نقاش عن الماضي، وتركيز على فهم الصهيونية بوصفها ظاهرة تاريخية؛ ونقاش عن الحاضر، مع تركيز مكثف على صلاحية واستحقاق تطبيق نموذج الفصل العنصري على إسرائيل، وعلى فعالية حركة المقاطعة BDS بوصفها استراتيجية رئيسة للتضامن مع الشعب الفلسطيني؛ وأخيرًا في الحديث عن المستقبل، تحدثنا عن الخيار بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين”. أي إن الكتاب في فكرته عبارة عن عصف ذهني مستمر على أرضية القضية الفلسطينية بكل الاحتمالات الممكنة.

الكشف عن الحقائق المأساوية:

من خلال حوارهما الذي اقترحه وسيّره وتداخل فيه بحيوية الناشط والكاتب الفرنسي فرانك بارات، يقشر تشومسكي وبابيه طبقات ما يسمى اصطلاحاً بـ “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، ويكشفان الحقائق المأساوية التي عانى منها الفلسطينيون عبر التاريخ. وبالاعتماد على الأبحاث المكثفة والخبرة العلمية، فإنهما يقدمان أدلة نصية ترسم صورة حية للاحتلال والتهجير والقمع المنهجي، الذي ظل يواجهه الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى الآن.

يتعمق تشومسكي بمساعدة بابيه بتحليل النكبة كفكرة، الحدث الكارثي لعام 1948، الذي أدى إلى طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من منازلهم؛ وهما يوليان الاهتمام الدقيق بالتفاصيل التاريخية، ويسلطان الضوء على التأثير العميق لهذا الحدث في الذاكرة الجماعية والهوية الفلسطينية. يشرحان الاحتلال المستمر للضفة الغربية والحصار المفروض على غزة، ويبرزان التحديات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون الذين يعيشون في ظل هذه الظروف القمعية على الدوام.

دور الجهات الدولية:

في كتابهما “عن فلسطين”، يقوم تشومسكي وبابيه بتحليل نقدي لدور اللاعبين الدوليين في إدامة الصراع؛ فيدرسان المصالح الجيوسياسية وديناميكيات القوة التي تشكل سياسات الولايات المتحدة وغيرها من الدول المؤثرة، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية. وهما يقدمان أدلة نصية مقنعة لدعم حججهما، ويكشفان عن الشبكة المعقدة من التحالفات والمصالح التي تعيق التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع.

دعوة للعدالة والتضامن:

وفي صفحات كتاب “عن فلسطين”، المكون من مقدمة و12 فصلاً توزعت على قسمين، هناك دعوة مدوية للعدالة وضرورة التضامن مع الفلسطينيين، حيث يؤكد تشومسكي وبابيه على أهمية الاعتراف بالحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني، والحاجة الملحة للتدخل الدولي لمعالجة الانتهاكات المستمرة لهذه الحقوق؛ كما يسلطان المزيد من الأضواء على أهمية الحركات الشعبية والحملات الدولية والمقاومة اللاعنفية كمحفزات للتغيير والأمل في سبيل التحرر معتمدين على أصوات الناشطين الفلسطينيين والمثقفين والمواطنين العاديين لتوضيح الرسالة للعالم خارج فلسطين والوطن العربي. ومن خلال حوارهما المشترك مع فرانك بارات، يحاول تشومسكي وبابيه إلهام القراء للتشكيك في الروايات السائدة والانخراط في محادثات هادفة حول طبيعة الاحتلال “الإسرائيلي” لفلسطين، بواسطة إدراج المزيد من الأدلة النصية باعتبارها تذكير بأن العمل الجماعي، المبني على التعاطف والالتزام بالعدالة، يمكن أن يعزز المسار نحو مستقبل أكثر إنصافًا لهذه القضية العالمية.

ولهذا يمكننا اعتبار كتاب “عن فلسطين” شهادة قوية على إمكانيات الحوار العلمي التاريخي التفاعلي في إبراز الحقيقة الخافية على كثيرين، وفي كشف الأكاذيب السياسية والإعلامية التي قام واستمر الكيان الصهيوني عليها. والكتاب بمستوى آخر من القراءة يمكن اعتباره دعوة من تشومسكي وبابيه للعمل الجاد.. هو بمثابة دعوة للعمل، وحث القراء على مواجهة الحقائق المأساوية التي يواجهها الفلسطينيون، والعمل من أجل التوصل إلى حل عادل ودائم.

ومن خلال صفحات “عن فلسطين”، نسمع تشومسكي وبابيه – وهما يقولان الحقيقة للسلطة- يدعوان القراء للانضمام إليهما في السعي لتحقيق العدالة على أرض فلسطين المحتلة؛ ولهذا نستطيع اعتبار هذا الكتاب ليس مجرد تعاون فكري رائع على صعيد تعزيز فكرة العدالة وحسب، بل هو أيضًا منارة للأمل – وإن كان بعيدا نسبيا- بأن العالم يمكنه أن يعيش بسلام إن التزم الجميع فيه بقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان.

ولأن تشومسكي اشتهر بتحليله النقدي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وبابيه هو مؤرخ بارز متخصص في قضية الاحتلال “الإسرائيلي” لفلسطين، فإن تعاونهما في هذا الحوار الحيوي يعزز فكرة فلسطين باعتبارها اختيار حقيقي للضمير العالمي بما لا يتناقض والحقائق العلمية والتاريخية. وقد ساعدهما في ذلك الدور الذي قام به مفعِّل الحوار فرانك بارات، فهو بصفته ناشطًا ومنسقًا لمحكمة راسل بشأن فلسطين، قدم وجهة نظره أيضا بشكل ساعد في توجيه الحوار نحو البحث عن حلول ملموسة للقضية، وإبراز دور الحركات الشعبية في ذلك.

وعلى الرغم من أن الكتاب يركز على القضية الفلسطينية، فإن الحوارات تمتد إلى ما هو أبعد من المنطقة برمتها، وصولا إلى الآثار الأوسع للجغرافيا السياسية العالمية، ودور المؤسسات الدولية، ومسؤوليات الدول القوية في خلق القضية ثم معالجتها. بل إن الحوارات في كثير من جوانب الفهم لها تصل بنا إلى قضايا أخرى بعيدا عن القضية الفلسطينية، متخذة منها مثالا على ما يحدث في هذا العالم، على اعتبار أن القضية الفلسطينية، كما يقول فرانك بارات “ليست إلا تجسيدا لكل ما هو خاطئ في هذا العالم”، والعالم مليء بتلك الأخطاء الناتجة عن الفكرة التوسعية الراهنة عموما.

وفي ختام تقديمه للكتاب – الذي لا يخلو من بعض الهفوات بالنسبة لقارئ عربية تهمه المصطلحات الخاصة بكل ما يتعلق بفلسطين- يبدو فرانك بارات وكأنه يقدمه للقارئ بعد مرور ستة أشهر على طوفان الأقصى، رغم أنه فعلياً كتبه قبل عشر سنوات تقريبا. يقول: “… والآن، تصبح فلسطين ببطء قضية اجتماعية عالمية، وعلى كل الحركات التي تقاتل من أجل العدالة الاجتماعية أن تتبناها. الخطوة التالية تكمن في ربط النقاط ببعضها بين الحركات والنضالات المتنوعة وخلق جبهة موحدة. إننا كثيرون.. سننتصر”.

فهل أتت الخطوة التالية فعلا؟ سنراقب حراك طلاب الجامعات الأمريكية من أجل القضية الفلسطينية ونحن نتحضر للإجابة!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...