عن لحظة عربية بائسة
بقلم: نبيل البكيري
| 12 مايو, 2024
مقالات مشابهة
-
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب...
-
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ...
-
العالم الفكري للروائي عبد الرحمن منيف
الرمز في الشخصيات والزمان والمكان توثيق تاريخي...
-
فرية “النامي” وعملية غليلوت
الفرية التي جاء بها مشعل النامي على نساء غزة،...
-
هاريس ضدّ ترمب: ماذا أرى في الكرة البلورية؟
يتذكّر بوب وودورد Bob Woodword، الكاتب الصحفي...
-
مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر
تذكرت أنني اشتريت نسخة من مذكرات محمد فايق، وزير...
مقالات منوعة
بقلم: نبيل البكيري
| 12 مايو, 2024
عن لحظة عربية بائسة
لا جدال في أن هذه اللحظة البائسة عربياً ليست بدعاً من لحظات العرب التاريخية الكثيرة، فقد مروا قديماً بمثلها من حيث الضعف والانقسام والخضوع والتبعية، لكن هذه – لا شك- هي الأكثر سوءاً وانحطاطاً، لأن التردي والانكسار بعد مجد ورفعة شيء مؤلم وقاسٍ جداً، ويستدعي ويفترض أن يكون لدى هذه الأمة من التجارب والخبرات ما يشكل رصيداً من وعي الذات، والممانعة والمقاومة للسقوط، تتكئ عليها في لحظات الضعف، كهذه التي يمر بها عالمنا العربي اليوم.
كان انقسام العرب قديماً قبل الإسلام انقساماً طبيعيّاً لظروف لحظتهم الزمنية تلك، مرده صراع القبائل والبطون والأفخاذ على الماء والكلأ والمرعى، وكل ما له علاقة بدوافع العيش والحاجة، على أطراف صحاري قاحلة لا مكان فيها سوى لرعي الإبل والشياه. أما اليوم فالانقسام خطير، يتخذ من الدين والمذهب شعاراً له وأساساً للاصطفاف، عدا عن الاستقطابات لهذا الطرف أو ذاك.
كان الغساسنة والمناذرة – أجدادنا القدماء- يتموضعون جغرافيا على تخوم أهم إمبراطوريتين حينها، وهما فارس والروم، وكانت كلتا الإمبراطوريتين في صراع دائم فيما بينهما على النفوذ والحدود، كعادة كل الدول والإمبراطوريات عبر التاريخ.. أما اليوم، فالعرب يُفترض أن لهم دولهم وممالكهم، ولم يعودوا بحاجة ماسة للكلأ والمرعى، وممارسة دور الحراسة لحدود المتصارعين.
عرب اليوم لهم دول مستقلة، بغض النظر عن حالة الضعف المؤقت الذي تمر به هذه الدول، فهي على الأقل دول على الخارطة وفي المواثيق والأعراف الدولية، تحضر كدول مستقلة ومعترف بها، ولها من الإمكانيات والطاقات الكثير، ما يجعلها بسكانها ومساحاتها وإمكانياتها في مصافّ الدول الكبيرة والوازنة، فما لديها يفوق في أحايين كثيرة إمكانيات كثير من الدول الأوروبية الأخرى، كهولندا وبلجيكا والسويد، وغيرها من الدول التي هي اليوم في مصافّ الدول المتقدمة.
فلا تكمن المشكلة عربياً اليوم في قلة الإمكانيات ولا في قلة الكوادر والطاقات، كما تكمن في فشل فكرة الدولة الوطنية وإفشالها، هذه الفكرة – أي الدولة الوطنية رغم سلبياتها- نجحت لدى جُلّ شعوب الأرض إلا في عالمنا العربي، ونحن هنا لا نتحدث عن الدولة الوطنية بمحمولاتها الأيديولوجية يساراً ويميناً، وإنما نتحدث عن فكرة الدولة الوطنية مجردة من كل هذه المحمولات، الدولة بمعناها الشامل لجغرافيا وشعب وسيادة ودستور.
ولهذا نرى العرب اليوم يعودون لا لمرحلة ما قبل الدولة الوطنية، وإنما لمرحلة ما قبل الإسلام ذاته، ولكن بأيديولوجية جديدة، فيها هذه المرة سنة وشيعة، وطوائف ومذاهب، كلها تتعارض وتتصادم ليس مع فكرة الدولة الوطنية فحسب، بل مع جوهر الإسلام ذاته، الذي جاء لتعبيد الإنسان لخالقه ومولاه، واهب الحرية والكرامة والعدالة والمساواة المطلقة.
و بالعودة لموضوع الغساسنة والمناذرة الجُدد، فما يجري اليوم في العالم العربي شيء يثير الضحك والبكاء على حد سواء، على ضوء فرضية المواجهة بين إيران وإسرائيل وانقسام العرب بشأنهما، وكأن العالم العربي قطيع لا قضية له ولا وعي ولا تاريخ، ولا حتى ذاكرة تسعفه في قراءة اللحظة في ضوئها مع ما أُثخنت به من الأحداث والدماء والأشلاء والمذابح والصراع والحروب.
قد لا نحتاج للعودة إلى التاريخ القديم لاستكشاف هذه اللحظة، فلا تزال الذاكرة العربية الراهنة مثخنة بأحداث لا يمكن نسيانها، مرت على مدى نصف قرن من الزمان؛ فدولة الاحتلال الصهيوني لا يتجاوز عمرها ٧٥ سنة، وهي فترة زمنية لا تزال معظم أجيال هذه اللحظة تدرك تفاصيل تفاصيلها، ومثلها أيضا تاريخ إيران الثورة الخمينية التي لا يتعدى تاريخها أربعة عقود، ومعظم نخب ومثقفي هذه اللحظة العربية لديهم كامل تفاصيل هذه الدولة وتماسّها مع العالم العربي على مدى هذه العقود الأربعة الماضية من الزمن.
ما أريد قوله هنا، إن الحديث عن اصطفافات مع هذا الطرف أو ذاك يعبر عن قعر الانسحاق العربي، والمهانة العربية، ويعكس حالة أن عرب هذه اللحظة بلا ذاكرة، أو أنه في أحسن الأحوال لديهم ذاكرة سمك، ينسى أن الصنارة التي تمتد له بالغذاء هي نفسها الصنارة التي تصطاده وجبة دسمة للصياد.
وبعيداً عن أي مقارنات أو موازنات للمتنطعين الذين ظهروا لنا فجأة ليخيّرونا بين شر الشرين وخير الخيرين، فإني أعتقد أن الواقع العربي على مدى الأعوام العشرة الماضية بما جرت فيه من أحداث مهولة، أُسقطت فيها دول وأُبيد فيها مئات الآلاف وشُرّد الملايين، يقدم لنا صورة جلية توفر علينا عناء الموازنات والمقارنات بين القتلة والمجرمين والسفاحين، وتُرينا أن القاتل في العراق وسوريا واليمن يحمل مثل إجرام وقصدية المجرم في غزة والضفة، وأن انتماء القاتل ودينه ومذهبه وعرقه لا يمكن أن يجعله أخف إجراماً من غيره.
إن عقلية المفاضلة بين المجرمين هي – أخلاقياً- مفاضلة خاطئة ومنحطة.. صحيح قد يكون لها مقبولية ومعقولية في المنطق السياسي المجرد، لكنها تبقى مفاضلة لحظية براجماتية، تنتفي أهميتها في لحظة قول الحقيقة، ومخاطبة الناس الذين يدركون جيداً اختلال ميزان المفاضلة أصلا، ويحرصون على تجريم كل مجرم وعدم منحه أي فرصة للتطهّر من إجرامه في مكان ما، بتلبسه شخصية البطل المقاوم في مكان آخر.
أعتقد جازماً أن مثل هذه الأمور بديهيات أخلاقية إنسانية، يدركها الإنسان البسيط المجرد من أي محمولات معرفية أو أيديولوجية، لأن فهمها واستيعابها مدرَك إنسانياً بالفطرة السوية، لا يحتاج أي رطانة قولية أو جدليات فلسفية، لأن البحث عن منطق فلسفي لتمرير مثل هذه المغالطات لا يزيد أصحاب المغالطات إلا انكشافاً وتعرّياً وسقوطاً أخلاقياً.
إن إعادة تدوير لعبة الغساسنة والمناذرة اليوم، بعد كل هذه التحولات في عالم الأفكار والتاريخ والدين والثقافة والجغرافيا، غدت لعبة بائسة ومضحكة جداً، لأنها فكرة بدائية متخلفة وسخيفة في واقع اليوم، الذي لم يعد يشبه ذلك الواقع، لا شكلاً ولا مضموناً، لكن الأكثر هُزالاً اليوم أن يتصدر الترويج لهذه الفكرة من يظنهم الناسُ نخبةَ القوم وقادة الرأي فيهم.
مهتم بالفكر السياسي الإسلامي
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت
منذ طوفان الأقصى، ومواقع التواصل تحتفي بأخبار إبداعات أهل غزة، ومبادراتهم التي تنهض وسط الإبادة والحصار، وتطرق جدران الخزان لتبعث برسائل التحدي، بهدف إظهار تمردهم على الواقع الصعب الذي فرضه الاحتلال، وإعطاء الأمل للعالم في أن هذه الثلة الصابرة المحاصَرة المرابطة قادرة...
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب النوبي الراحل "إدريس علي" صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية "بلال"، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة "إدريس" نفسه. "بلال" باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة "التهميش"، أحب...
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ...
0 تعليق