غرب المتوسط | هل تُستهدف جغرافيته السياسية؟

بقلم: محمد الشرقاوي

| 13 يوليو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: محمد الشرقاوي

| 13 يوليو, 2023

غرب المتوسط | هل تُستهدف جغرافيته السياسية؟

يذهب كثيرون إلى استخدام عبارات أنيقة مركّبة من مفهومين وبين لغتين مثل “الجيو-سياسي” و”الجيو-بولتيكي”؛ لكن كُنْه المفاهيم والنظريات ينبغي أن ينساب إلى الإدراك بلغة بسيطة مباشرة تعكس تأصيلا لغويا وتبيئةً دلالية لها. لذلك أتمسك بأن اللغة العربية ليست عاجزة عن مواكبة تطور الفكر ومستجدات البحث العلمي، حتى في الشؤون الدولية. وعبارة “الجغرافيا السياسية” بفضل يُسرها وحصافتها تؤدي المعنى المنشود، كما قصدها الإغريق الذين نحتوا مفهوم geopolitics على أنّه “سياسة الأرض” في بعديها المادي والبشري في كتابات أرسطو وهيرودوت. وانتبه ابن خلدون إلى أهمية امتداد جغرافيا العرب بين ثلاث قارات، فكان للصحراء والطرق التجارية متعددة الاتجاهات بالنسبة لهم أهمية، مثل التي غدت للبحار لاحقا بالنسبة لبريطانيا العظمى في أوج قوتها خلال القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر.

تؤكد تداعيات الحرب الأوكرانية، أكثر من غيرها من الحروب الإقليمية الراهنة، تلك الدلالة الإستراتيجية للجغرافيا السياسية في القرن الجديد؛ وهي اليوم جغرافيا سياسية مرنة إزاء مصالح الدول العظمى إذا ركّزنا على التباعد غير الإستراتيجي الراهن بين الجزائر والمغرب.

ابتكر الألماني فريدريك راتزل Friedrich Ratzel مفهوم Lebensraum أو “المجال الحيوي”، أو: “مساحة الوجود” التي تربط المجموعات البشرية بالوحدات الجغرافية التي تتطور فيها، وأصدر كتابه الشهير “الجغرافيا السياسية” Politische Geographie عام 1897، قبل أن تجد الدلالة أهميتها في دراسة العلاقات الدولية كعلم جديد في القرن العشرين. وتطوَّر مفهوم “جيوبوليتيك” في كتابات آخرين، ومنهم كارل هاوسهوفر  Karle Hawshoferالذي اعتبره “العلم القومي الجديد، وعقيدة تقوم على حتمية المجال الحيوي بالنسبة لكل العمليات السياسية”. وشدّد بيرت شابمن Bert Chapman على أن هذا العلم الجديد يعكس الواقع الدولي، ومجموعة القوى العالمية المنبثقة عن تفاعل الجغرافيا من جهة والتكنولوجيا والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى، وتتسم بالطابع الديناميكي لا الثابت. وتظل الجغرافيا هي “العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لأنها أكثر العوامل ديمومة، إذ يأتي الوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها”، كما خلص نيكولاس سبيكمان Nicholas Speakman في أبحاثه عقب الحرب العالمية الثانية.
تؤكد تداعيات الحرب الأوكرانية، أكثر من غيرها من الحروب الإقليمية الراهنة، تلك الدلالة الإستراتيجية للجغرافيا السياسية في القرن الجديد؛ وهي اليوم جغرافيا سياسية مرنة إزاء مصالح الدول العظمى إذا ركّزنا على التباعد غير الإستراتيجي الراهن بين الجزائر والمغرب. بيد أن كثيرا من النخب السياسية المغاربية لا تستكشف مآله وزواياه الرمادية في ظل التنافس المفتوح بين سبعة مشاريع نفوذ، بدرجات مختلفة، بين طموحات روسيا والصين وإسرائيل وتركيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة. وتراهن أغلب الإستراتيجيات التي تبحر بها العواصم الكبرى نحو مياه جنوب غرب المتوسط على الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للدول الخمس من ليبيا إلى موريتانيا، وهي بوابة طبيعية إلى بقية القارة الأفريقية، فيما يعاني المشروع الفرنكفوني انحباسا متزايدا لدائرة تأثير الإليزيه في القارة السمراء.
خلال شهر يونيو الحالي، تحركت السياسة الخارجية لكل من المغرب والجزائر في اتجاهين مختلفين: استقبلت الرباط رئيس الكنسيت الإسرائيلي أمير أوحانا، الذي وقف في منصة البرلمان تلبية لدعوة رئيسه رشيد الطالبي العلمي، العضو القيادي في حزب الأغلبية الحكومية التي يتزعمها رئيس الوزراء عزيز أخنوش؛ وفي المقابل، توصل الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في الكرملين، إلى إبرام “شراكة إستراتيجية معمقة” بين البلدين، والتوقيع على ثماني معاهدات؛ والأهم أن الرئيس تبون دعا نظيره بوتين لدعم بلاده “بشكل عاجل” للانضمام إلى مجموعة بريكس، لأن “الوضع الدولي الراهن مضطرب جدا، حتى ندخل في تنظيم آخر غير الدولار أو اليورو، ولكونه سيعود بالفائدة لاقتصادنا” ،حسب تقديره، وجاء هذا بعد ثمانية أشهر من تقديم المسؤولين الجزائريين طلبا رسميا للعضوية.

يكبر السؤال: هل قدم هذا اللوبي اليهودي نتائج ملموسة، سواء بتأكيد حكومة بايدن موقف الرئيس السابق دونالد ترمب بشأن “مغربية الصحراء”، أو “تشييد قنصلية أمريكية” في الداخلة، أو تحقيق ما اعتبره المحتفون بأنه “اعتراف القرن”.

أثار وجود رئيس الكنيست في المغرب أسئلة قديمة جديدة حول حصيلة التطبيع مع إسرائيل، وبالتحديد في ظل سياسة نتنياهو، ومن خلفه حزب الليكود الذي يضم عددا من المتشددين من أصل مغربي، يتولون المسؤولية في الحكومة والجيش والاستخبارات. وامتنعت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن التعليق على ما تردّد عن أن حكومة نتنياهو تبحث في إعلان محتمل بالاعتراف بسيادة المغرب على منطقة الصحراء، وذلك بعد مرور واحد وثلاثين شهرا على توقيع اتفاق التطبيع الإبراهيمي بإيعاز من حكومة ترمب في 22 ديسمبر 2020. ويشارك اثنا عشر جنديا من أحد ألوية النخبة في القوات البرية الإسرائيلية “لواء غولاني” للمرة الأولى في مناورات “الأسد الأفريقي” في سبع مناطق في المغرب: أكادير وابن جرير والقنيطرة والمحبس وتيزنيت وتيفنيت وطانطان، ضمن تدريبات يشارك فيها و8000 من الجنود من ثماني عشرة دولة. وقال جويل تايلر المسؤول في القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا  Africom:”إن قدرتنا الجماعية على الجمع بين الدول المتشابهة في التفكير، للمشاركة في هذا التمرين أمر مثير للإعجاب حقا”.
لكن، ثمة أسئلة متواترة لدى الرأي العام المغربي حول حقيقة مكاسب التطبيع مع إسرائيل باعتباره استثمارا سياسيا من أجل استمالة الموقف الرسمي الأميركي. وتعتدّ دبلوماسية الرباط بأن “العلاقات الثنائية مع إسرائيل تتحسن على جميع المستويات، والمغرب قد استقبل أكثر من 12 زيارة لمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى، وحقق قفزة بنسبة 160% في المبادلات التجارية، وزيادة بمقدار 5 أضعاف في عدد السياح الإسرائيليين خلال العامين الماضيين، كما قال وزير الخارجية ناصر بوريطة في حديثه عن بُعد، قبل أيام، لمنتدى اللجنة اليهودية الأمريكية.AJC    
هناك أكثر من مغزى في ما كتبه الصديق الصحفي يونس مسكين قائلا: “سلّمنا أمرنا لوكالة صغيرة مرتبطة بواشنطن اسمها اسرائيل؟. هذا من أسباب ضعفنا وتنكبنا وعزلتنا وتجريدنا تدريجيا من أوراق تأثيرنا وحضورنا عربيا ومغاربيا وإفريقيا”. واليوم، نجد أن سردية الاستثمار في، أو الاتكال على، اللوبي اليهوي في الولايات المتحدة، في تعزيز مصالح المغرب، تواجه تحديات في أرض الواقع؛ ويكبر السؤال: هل قدم هذا اللوبي اليهودي نتائج ملموسة، سواء بتأكيد حكومة بايدن موقف الرئيس السابق دونالد ترمب بشأن “مغربية الصحراء”، أو “تشييد قنصلية أمريكية” في الداخلة، أو تحقيق ما اعتبره المحتفون بأنه “اعتراف القرن”. في المقابل، يتجه الكرملين نحو توسيع نفوده جزائريا في غرب المتوسط، على غرار توسيع نفوذه سوريّاً في شرق المتوسط، وقد أعرب الرئيس بوتين عن تقديره للدور الذي تقوم به الجزائر في أفريقيا والعالم العربي واصفا إياها بـأنها “الشريك المفتاح في العالم العربي والأفريقي.”

تزداد الخشية لديّ من أن يتمّ ربط العلاقات الجزائرية المغربية طوعيا، أو أن يتم إقحامها داخل مربع تكون مصالح كل من إسرائيل وروسيا فيه الخيط الناظم، ثم التسليم بهذا الوضع.

تظل سياسة التحالفات مع قوة عظمى (روسيا) أو قوة إقليمية (إسرائيل) سيفا ذا حدّين. وكما كتبتُ في مقالة سابقة منشورة بعنوان “الجزائر والمغرب داخل المربّع المسموم” (7 ديسمبر 2021)، ينبغي إعادة النظر في فرضية الاتكال على العنصر الخارجي أو “الارتباطات الدولية” كما فكّكها إدوار عازر صاحب نظرية “الصراعات الاجتماعية الممتدة”. فهو يقول إنّ تلك “الارتباطات الدولية عادة ما يكون لها دور رئيس، ليس في ضعف مستوى الحوكمة لدى الدولة وعدم قدرة الفئات المغلوبة على أمرها على ضمان احتياجاتها الإنسانية الأساسية فحسب، بل وأيضا في مدى تبعية السياسة الداخلية وانصياعها للروابط والإملاءات الخارجية”.
تزداد تحديات المنطقة المغاربية بفعل الموجة الجديدة من إنتاج العداء والمؤامرات المتخيلة بين الجزائر والمغرب، والطموحات الإسرائيلية والروسية أكثر من غيرهما، فضلا عن التنافس التاريخي حول قيادة أي وحدة مغاربية محتملة؛ ولا يمكن التقليل من دلالة الحاجز النفسي والسياسي بين النخب العسكرية والأمنية في الجزائر والرباط في هذه المرحلة، ما يقلص من فرص العودة إلى انفراج أو توافقات ممكنة. وتزداد الخشية لديّ من أن يتمّ ربط العلاقات الجزائرية المغربية طوعيا، أو أن يتم إقحامها داخل مربع تكون مصالح كل من إسرائيل وروسيا فيه الخيط الناظم، ثم التسليم بهذا الوضع. ويكشف مجرى هذه العلاقات حاليا معضلتين مزدوجتين في القرينة بين المتغير المستقل والمتغير التابع: يصبح المغرب متغيرا تابعا بموازاة مصالح إسرائيل التي غدت المتغير المستقل، فيما تغدو الجزائر متغيرا تابعا أيضا لإستراتيجية الكرملين في أفريقيا وضمن المواجهة مع المعسكر الغربي، وتستكين مصالح الجزائر في مكانها كمتغير تابع. وقد قال الرئيس تبون في موسكو إن صون استقلال الجزائر يأتي “بمساعدة روسيا في تسليحنا والدفاع عن حريتنا في ظل ظروف إقليمية صعبة جدا”. ولا غرابة أن تمثل العلاقات الروسية الجزائرية المدخل المناسب، بعد كانت الأزمة الليبية ومناصرة خليفة حفتر ومحور طبرق رهانا روسيا آخر على “رَوْسَنَة” المنطقة الجنوبية من غرب المتوسط.
تتعطّل مَلَكَة الحوار والإنصات بين الجزائر والرباط، ويتراجع مستوى الثقة في الآخر، وتغلب صناعة العداء المتخيّل على يقينية الجزائريين بمواقف المغاربة وثقة المغاربة بجيرانهم الجزائريين؛ فتخرج العلاقات الثنائية من وضعها الطبيعي لقرون، وتحيد عن ثنائية التقابل واحتواء المواقف؛ فتصبح مصالح نتنياهو وكوشنير، وشبح الطرف الغائب في تل أبيب، ومصالح بوتين ولافروف في موسكو، هي ما يتحكم في تعميق فجوة التنافر بين الجارين. ويتفوق المشروعين، الروسي والإسرائيلي، على بقية مشاريع النفوذ التي تركز أنظارها على المنطقة، وعلى ناصيتها تنتحر الدبلوماسية وتلطم الجغرافيا السياسية المغاربية على خدّيها في وجه تراجع قدرة دول المنطقة على التحكم الذاتي في حاضرها وتقامر بمستقبلها الإستراتيجي بكل أسف.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...