غزة.. إذ يحاكم الجنوب بها الشمال

بواسطة | يناير 23, 2024

بواسطة | يناير 23, 2024

غزة.. إذ يحاكم الجنوب بها الشمال

محاكمة جنوب أفريقيا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية تمثل لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية. حيث أن معركة طوفان الأقصى في غزة كانت الشرارة التي أنارت دروب التضامن الدولي، كما أنمحاكمة العدوان الإسرائيلي أظهرت تحولًا هامًا في المشهد العالمي. وكيف أن جنوب أفريقيا، بتاريخها الحديث، تقود هذا التحول وتحطم رؤى العنصرية. والجماعة الدولية تشهد على صحوة إنسانية تاريخية، وتقف مع غزة في معركتها ضد الظلم والهيمنة الغربية.

تحت المجهر – محاكمة إسرائيل ولحظة الفارق في تاريخ العالم

 لم تكن محاكمة جنوب أفريقيا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي، في ٢٩ ديسمبر/ كانون الثاني ٢٠٢٣م، جراء حرب غزة الأخيرة، مجرد لحظة عابرة تمر مرور الكرام في التاريخ البشري المعاصر، فلقد شكلت هذه المحاكمة نقطة فارقة في التاريخ الإنساني الحديث على الأقل، حيث يتم لأول مرة في التاريخ المعاصر محاكمة الشمال بمركزيته الغربية الأوروبية تحديداً.

فما أحدثته معركة طوفان الأقصى مع صمود غزة كل هذا الوقت، وما تلاها من تداعياتها العالمية، قد جعلها – بلا شك- اللحظة الفارقة في التاريخ الحديث.. هذه اللحظة كانت الكاشفة لكل مسارات السياسة والأفكار في عالم اليوم، وبدأ فِعلها هذا بانكشاف سردية المركزية الغربية في رؤيتها للعالم، وانكشاف شعاراتها المرفوعة عن الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية.

 وكما أسلفنا، فإن معركة طوفان الأقصى هي – ولا شك- لحظة فاصلة تاريخياً بين زمنين وبين مرحلتين، حيث كان من تداعيات هذه المعركة أن يرتفع صوت الجنوب العالمي هذه المرة، وتحديداً من أقصى الجنوب الأفريقي.. من جنوب أفريقيا، بلادِ أعظم قصة كفاح من أجل الحرية والكرامة الإنسانية ضد نظام الأبارتهايد، نظام الفصل العنصري البغيض الذي زرعته أوروبا في جنوب أفريقيا، وأرادت من خلال ذلك أن تعيد تشكيل خارطة ديمغرافيا العالم من هناك.

 إن ما قامت به دولة جنوب أفريقيا تجاه إسرائيل وعدوانها على غزة، يشكل سابقة تاريخية ومؤشراً لعالم جديد، حيث أقدمت جنوب أفريقيا على محاكمة هذه العدوان الإجرامي الهمجي، هذا العدوان المدعوم غربياً، باعتبار إسرائيل مثلها مثل نظام الفصل العنصري الذي انهار في جنوب أفريقيا بعد رحلة كفاح ونضال جنوب أفريقية طويلة، تكللت بإنهاء نظام دولة الفصل العنصري البائد هناك، بإجراء أول انتخابات ديمقراطية عام ١٩٩٤م وفوز المناضل والزعيم الأفريقي العالمي نيلسون منديلا بالحكم هناك، بعد قصة نضال وكفاح  طويلين، قضى فيها ما يقارب ٢٧ عاماً في السجن.

 والمفارقة اليوم، أن دولة إسرائيل ودولة جنوب أفريقيا كلتاهما قامتا على فكرة عنصرية استعمارية منذ لحظة التأسيس نفسها في العام  ١٩٤٨م، وهو ما يضعنا أمام درس تاريخي هام في مسيرة الكفاح الإنساني المشترك، بين الشعبين الفلسطيني والجنوب أفريقي، من أجل الحرية والكرامة والاستقلال، والذي تُوِّج بانتصار جنوب أفريقيا في معركتها تلك، مؤذناً بانتصار الشعب الفلسطيني العربي في معركته أيضاً، طال الزمن أو قصُر.

وانطلاقاً من هذه القواسم المشتركة والمتشابهة بين نضالي الشعبين، الجنوب أفريقي والفلسطيني، أتت فكرة محاكمة الصهيونية الحاكمة وجرائمها اليوم في غزة؛ ومع هذا يأتي الفعل الإنساني والحضاري الكبير الذي قامت به جنوب أفريقيا حاملاً دلالة كبيرة وعظيمة على بزوغ لحظة تاريخية فارقة من النضال، تقوده اليوم دولة جنوب أفريقيا ممثِّلةً الجنوب العالمي كله في وجه مركزية الشمال الكولونيالي الغربي، الذي يحتضر اليوم أمام صحوة إنسانية فارقة.

 لقد قال أحد كبار دبلوماسيي مجموعة السبع لصحيفة فايننشال تايمز في الشهر الماضي: “لقد خسرنا المعركة في الجنوب العالمي بكل تأكيد، لقد ضاع كل العمل الذي قمنا به مع الجنوب العالمي، انسَ القواعد، انسَ النظام العالمي.. لن يستمعوا إلينا مرة أخرى”، و من هنا جاءت مقولة ستيفن ولت، عالم العلاقات الدولية الأشهر، في مقالة له نشرتها الفورين بولسي تحت عنوان “بعد الحرب بين إسرائيل وحماس لن يبقى العالم كما كان“.

ما نريد قوله هنا، أن ثمة تحولاً كبيراً قادماً في أروقة المشهد الدولي الراهن، هذا التحول بدأت أولى مؤشراته مع تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد حرب إسرائيل وعدوانها على سكان قطاع غزة الفلسطيني المحاصر منذ ١٧ عاماً، ونجاح هذه الدعوى في تثبيت جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان غزة.. هذا التحول هو انتصار لصوت الجنوب العالمي باعتباره اليوم ممثلاً للإنسانية كلها، التي خرجت مسيراتها حول العالم شمالاً وجنوباً منددة بهذا الإجرام الإسرائيلي.

إن هذا التحول الكبير في المزاج العالمي، وتعاظم الحساسية الإنسانية تجاه الجرائم المرتكبة من قبل دولة الاحتلال الصهيوني، ولأول مرة في تاريخ دولة الكيان، لا شك أنه يكسر حالة صمت عالمي طويل تجاه جرائم هذه الكيان الاستعماري اللقيط؛ بل إنها حالة صحو إنساني حضاري، تعيد الاعتبار للإنسانية وإنسانها المقهور فلسطينياً، ليس بفعل التواطؤ الواضح غربياً، بل بفعل الإسهام الغربي الكبير في هذه الجريمة الاستعمارية مكتملة الأركان.

لا يمكن اليوم إنكار الدور الكبير، الذي تؤديه معركة غزة بشعبها الفلسطيني الصامد، في إعادة تعريف الكثير من المفاهيم والمصطلحات، وإعادة الاعتبار للفكر الإنساني كله.. هذا الفكر الذي تلبسته مغالطات وأكاذيب كثيرة، بفعل الهيمنة الغربية على كل مجالات السياسة والثقافة والأفكار ككل، تلك الهيمنة التي ساهمت حتى في تعطيل فكرة  الحداثة الإنسانية ذاتها، من خلال لعبة  المعايير المزدوجة في التعاطي مع أزمات العالم كله.

تلك المعايير تختلف من مكان إلى آخر على خارطة الكرة الأرضية، حيث للإنسان في أوكرانيا – مثلاً- قيمة ومعنى آخرين، لا يمتلكهما أخوه في الإنسانية في غزة فلسطين، أو في أي مكان آخر من أصقاع العالم غير الغربي.. هذه الازدواجية هي التي كشفتها وعرَّتها غزة اليوم، ثم حوَّلتها دولة جنوب أفريقيا إلى مرافعة قانونية وأخلاقية تاريخية، بما قدَّمه فريقها القانوني أمام المحكمة الدولية وأمام العالم أجمع.

وختاماً، إن البشرية اليوم وغداً ستدين بالفضل الكبير في تحريرها من أسر وقيود الهيمنة الغربية لأبطال معركة طوفان الأقصى وصمود شعب غزة العظيم، ولنُبل وعظمة حكومة جنوب أفريقيا وفريقها القانوني العظيم، الذي تحلّى بكل تلك المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، وتمكن بمرافعته تلك من محاكمةٍ لم تنل فقط الهيمنة الغربية للشمال العالمي ومنظومته المعيارية المختلة، بل إنه حاكم أيضاً كل الصامتين حول العالم شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...