غزة وإسرائيل.. ميزان التصميم في مواجهة ميزان القوة

بواسطة | مايو 15, 2023

بواسطة | مايو 15, 2023

غزة وإسرائيل.. ميزان التصميم في مواجهة ميزان القوة

لعبت عدة عوامل في دفع إسرائيل إلى شن عدوانها الأخير على قطاع غزة، الذي استهدف بشكل خاص اغتيال قيادات الجناح العسكري لحركة “الجهاد الإسلامي” وضرب مقدراتها العسكرية.
فقد رغبت إسرائيل أولا في جباية ثمن من “الجهاد الإسلامي”، ردا على إطلاقه عشرات الصواريخ، في أعقاب استشهاد القيادي خضر عدنان، متأثرا بإضرابه عن الطعام في سجون الاحتلال الذي امتد لستة وثمانين يوما. وفي الوقت ذاته، هدف العدوان بشكل أساس إلى ترميم قوة الردع الإسرائيلية، التي رأت دوائر كثيرة في تل أبيب، أنها تآكلت في أعقاب إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان وسورية وغزة، ومحاولة فرض معادلة جديدة تؤسس لتغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة الفلسطينية في القطاع. كذلك أرادت إسرائيل من وراء هذا العدوان إرسال رسالة إلى بقية الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة “حماس”، مفادها أن كلفة استئناف إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي ستكون كبيرة جدا.

إسرائيل عمدت إلى اختيار توقيت بدء الهجوم على غزة، بحيث ينتهي قبل حلول ما يسمى بـ “يوم القدس”، الذي يحل في الثامن عشر من مايو الجاري

كما رأت إسرائيل في هذا العدوان اختبارا لمدى موضوعية مخاوفها من إمكانية تفجر مواجهة على عدة ساحات، في حال أقدمت على مهاجمة غزة، وتحديدا انطلاقا من لبنان وسورية، سيما بعد إشارة قادة فصائل المقاومة وحزب الله تصريحا وتلميحا إلى هذا الخيار.
إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل عمدت إلى اختيار توقيت بدء الهجوم على غزة، بحيث ينتهي قبل حلول ما يسمى بـ “يوم القدس”، الذي يحل في الثامن عشر من مايو الجاري، وتحتفي فيه إسرائيل بذكرى احتلالها للمدينة المقدسة. وتستغل التشكيلات اليهودية المتطرفة هذه المناسبة في تنظيم “مسيرة الأعلام” الاستفزازية داخل المدينة؛ وهي المسيرة التي سبق أن أفضى تنظيمها إلى اندلاع مواجهات كبيرة بين المقاومة في غزة وإسرائيل، كما حدث في أيار 2021.
فقد راهنت إسرائيل على توظيف العدوان في محاولة ردع فصائل المقاومة في غزة، عن محاولة الرد على تنظيم المسيرة الاستفزازية بإطلاق الصواريخ على القدس، كما فعلت حركة “حماس” في 2021.  ومما أجج الرغبة الإسرائيلية في محاولة تحييد رد غزة على تنظيم “مسيرة الأعلام” حقيقة أن رد حماس على هذه المسيرة في 2021 أفضى، لأول مرة، إلى انضمام فلسطينيي الداخل إلى دائرة العمل المقاوم، مما مثل في حينه تحديا هائلا للجبهة الداخلية الإسرائيلية. فقد نشبت مواجهات كبيرة ودامية بين هؤلاء الفلسطينيين والمستوطنين، تحديدا في المدن المختلطة التي يقطنها الفلسطينيون واليهود، سيما مدن: الرملة، اللد، عكا، يافا، وحيفا.
على صعيد آخر، لا يمكن تجاهل الاعتبارات الداخلية كأحد أهم المحفزات التي دفعت نتنياهو لشن العدوان. فنتنياهو معني بتغليب الأجندة الأمنية في الجدل الإسرائيلي، وتقليص الاهتمام بالإصلاحات القضائية التي أعلنت عنها حكومته، والتي تهدف بين أمور أخرى، إلى توفير مسار قانوني يعفيه من العقوبة في قضايا الفساد الخطيرة، التي يمثل حاليا أمام المحاكمة بسببها.
كما وظف نتنياهو العدوان في العمل على ضمان استقرار حكومته، سيما بعدما أعلنت حركة “المنعة اليهودية” التي يقودها وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، عن تعليق مشاركة وزرائها في اجتماعات مجلس الوزراء، وعدم تصويت نوابها لصالح مشاريع القوانين التي يطرحها الائتلاف الحاكم في الكنيست “البرلمان”، احتجاجا على ما اعتبرته “الرد الضعيف” على إطلاق الصواريخ من غزة، في أعقاب استشهاد القيادي خضر عدنان. وبالفعل أعلنت “المنعة اليهودية” بعد العدوان، عن عودة وزرائها إلى حضور اجتماعات مجلس الوزراء، واستئناف نوابها التصويت لصالح مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة.
وبعد استعراض العوامل التي دفعت إسرائيل لشن العدوان، فإنه من الأهمية بمكان اختبار مدى تحقق أهم هدف راهنت إسرائيل على تحقيقه من خلال شن هذا العدوان، وهو استعادة قوة الردع، حيث إن تحقيق هذا الهدف يعني ضمان تحقيق الأهداف الأخرى.
ولإصدار حكم حول مدى إسهام العدوان في تحسين وترميم قوة الردع الإسرائيلية، فإن علينا أن نعود إلى تعريف الإستراتيجي البريطاني ليدل هارت لـ “الردع” كما ورد في كتابه “الإستراتيجية وتاريخها في العالم”. فقد عرف “الردع”، بـ: “الهدف الحقيقي للحرب، الذي يتمثل في ضرب روح ومعنويات قادة العدو وليس أجساد جنودهم، من منطلق أن إنجاز هذا الهدف يعني المس بدافعية العدو لمواصلة الحرب”.
 

الرغم من أن إسرائيل شنت منذ 2006، ست عشرة حملة عسكرية كبيرة على غزة، منها أربع حروب، اغتالت فيها المئات من قادة ومقاتلي الأذرع العسكرية للمقاومة؛ فإنها فوجئت في كل جولة، بأن فعل المقاومة وتأثيرها يتعاظم ويصبح أوسع أثرا

فإن كانت إسرائيل قد بررت اغتيال القادة العسكريين لحركة “الجهاد الإسلامي” بمسؤوليتهم عن إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي، في أعقاب استشهاد خضر عدنان، فإنّ نجاح “الجهاد” بالرد على عمليات الاغتيال، بتوسيع مدى صواريخ وجعلها أكثر فتكا، يعني أن إسرائيل فشلت في ترميم قوة ردعها المتآكلة. وعندما يضطر كيان ما إلى شن حروب وحملات عسكرية ضد العدو نفسه في أوقات متقاربة، فإن هذا أوضح مؤشر على عدم تحقق الردع؛ فقد شنت إسرائيل خلال السنوات الثلاثة الماضية ثلاث حملات عسكرية ضد “الجهاد الإسلامي” وحده، وهو تنظيم يعد ضعيفا جدا مقارنة بحركة “حماس”.
 وعلى الرغم من أن إسرائيل شنت منذ 2006، ست عشرة حملة عسكرية كبيرة على غزة، منها أربع حروب، اغتالت فيها المئات من قادة ومقاتلي الأذرع العسكرية للمقاومة؛ فإنها فوجئت في كل جولة، بأن فعل المقاومة وتأثيرها يتعاظم ويصبح أوسع أثرا، مقارنة بالجولة السابقة.
إن فرص تحقيق إسرائيل الردع في مواجهة المقاومة في قطاع غزة تؤول إلى الصفر؛ حيث إنه، بخلاف الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي، لا يتوقف تحقق الردع  فقط على “ميزان القوة”، بل يستند أيضا إلى “ميزان التصميم”. وإن كان ميزان القوة العسكرية والتقنية والاستخبارية والاقتصادية يميل بشكل جارف لصالح إسرائيل، فإن ميزان التصميم يميل لصالح حركات المقاومة؛ فميزان التصميم يعني ألا تتردد في استخدام ما لديك من مقدرات قوة، وإن كانت متواضعة، بمعزل عن تداعياتها، حتى نهاية المواجهة؛ في حين أن إسرائيل، رغم تفوقها في ميزان القوة، تستثني الكثير من الخيارات العسكرية في التعاطي مع غزة، سيما شن حملات برية في عمق القطاع، تخوفا من وقوع عدد كبير من القتلى في صفوف الجنود، بشكل لا يمكن أن يتقبله المجتمع الإسرائيلي.
فحسب عوفر شيلح، الرئيس السابق للجنة “العقيدة الأمنية” التابعة للكنيست، فإن قيادة جيش الاحتلال أقرت في 2018 مخططا تبادر بموجبه ألوية صفوة وقوات النخبة، في بداية أية حرب ضد غزة، في الانقضاض على مرابض الصواريخ في قلب القطاع، ثم يتم إسنادها بسلاح الجو؛ لكن، تم التراجع عن تطبيق المخطط بفعل المخاوف من وقوع خسائر بشرية كبيرة، والشكوك في أن تسفر هذه العمليات عن نتائج محدودة.
إن أكثر ما يمس بمكانة إسرائيل في “ميزان التصميم”، حقيقة حدوث تحول واضح في نظرة الكثيرين، في الأوساط المجتمعية الإسرائيلية، تجاه طابع العقد الاجتماعي الذي يربط المستوطن بهذا الكيان، بسبب خفوت قوة وحضور الفكرة الصهيونية لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين، التي لم تعد ترى أن من واجبها الإسهام في الجهود الهادفة إلى حماية الأمن القومي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...