فتحي سرور.. وأصول الحكم

بواسطة | أبريل 7, 2024

بواسطة | أبريل 7, 2024

فتحي سرور.. وأصول الحكم

عندما غضب الدكتور فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب المصري، من وصف “ترزية القوانين”، كتبتُ مقالاً في أبريل 2005، حمل عنوان “فتحي سرور للخياطة والحياكة والذي منه”، أشبعته فيه سخرية؛ ذلك بأن هذه وظيفة البرلمان المصري من قبل رئاسته له، وطوال سنوات عمله فيه، فيصدر القوانين على “مقاس” الحاكم، ولم يكن قد جد جديد يدفعه للغضب!

وقد توفي الرجل، فقد أفضى إلى ما قدم، وموقعه من الجنة أو النار علمه عند ربي؛ لكن ما يهمنا منه هو السياسي، الذي يخضع للنظر والتقييم، ولا يجوز التعامل مع الأمر على أنه “ديني صرف”، فيظن البعض أنه يملك خزائن رحمة ربي، ثم يرى البعض الآخر هذه الدعاية، فيعتبرها تنطلق من الإخوان، فيشد هو من ناحيته مئزره، ويندفع معدداً مناقب الرجل وكيف أنه مات في ليلة القدر، وعلى سريره، وكأن الموت في هذه الليلة، وعلى هذه الشاكلة أمر يخص عباد الله الصالحين وحدهم!

بيد أنها أزمة الاستقطاب السياسي الحاد التي تشهدها مصر من بعد ثورة يناير، وأزمتنا مع مواليد يناير 2013، ويوليو 2013، فلو كان هذا الجيل مطلعاً على السياسة ودروبها ما اضطر أن يجعل من هذه الوفاة شأناً دينيا، هروباً من حقيقة افتقاده القدرة على التقييم السياسي، ومن الجانبين!

الوزير الفاشل:

ما علينا، فإذا كانت الأجيال التي وعت على الدنيا والرجل رئيساً للبرلمان ترى فيه القدوة والمثل، لاسيما عند المقارنة بشخص علي عبد العال، رئيس أول برلمان بعد الانقلاب العسكري، فإن جيلنا لم ير فيه هذه الكفاءة، بل كنا نرى في اختياره، في بادئ الأمر في صيف عام 1990، أنه اختيار للشخص الغلط، لأن المقارنة هنا لم تكن بينه وبين “عبد العال”، صاحب الأداء المسخرة والكفاءة المحدودة، فقد كنا نقارن بينه وبين رفعت المحجوب، وإن كنا نختلف معه فكراً وسياسة، لكنه كان شخصاً “فاحش الموهبة”، وصاحب قدرات خاصة في إدارة المجلس مع وجود فطاحل المعارضين، وفي المساهمة في وضع أسس الحكم، فلم يكن إمعة، وهذا بجانب كونه متحدثاً لبقاً وخطيباً مفوها!. ذات جولة مكوكية لمبارك، انتهت بالمغرب، وفي زيارته بعدها لمجلس الشعب، وقف رفعت المحجوب خطيباً: “أيها العائد من الخليج، ترنو ببصرك إلى المحيط، مرحباً بك عائدا من الدار البيضاء”، فبدا للعبارات لحن موسيقي جميل.

وعلى الرغم من أن فتحي سرور أستاذ متميز للقانون الجنائي، فإنه لا يبدو شيئاً مذكوراً عند هذه المقارنة، فضلاً عن أنه قبل هذا الاختيار كان وزيراً فاشلاً للتعليم، يكفي العلم أنه أدخل البلاد في حارة سد، بإلغائه للسنة السادسة من التعليم الأساسي، ليكون الدخول إلى المرحلة الإعدادية بعد الصف الخامس! وحذرت المعارضة وأهل العلم من مغبة ذلك، وأن خطأ هذا القانون سيظهر بعد سنوات، لكنه أصر على موقفه ودافع عن قانونه، حتى وجدت الجامعات المصرية نفسها أمام دفعتين في الثانوية العامة للالتحاق بالجامعة التي لا تحتمل دفعة واحدة في كل عام، فلما تفجرت المشكلة كان قد أصبح رئيساً لمجلس الشعب، ما أمكنه أن يعيد السنة السادسة اعترافاً منه بالخطأ!

أتذكر أنه بعد اغتيال الدكتور رفعت المحجوب، وكان هذا في الإجازة الصيفية للمجلس، التي ستجرى خلالها الانتخابات الجديدة، علمنا من الكواليس أن فتحي سرور هو البديل، وكنت أبدي دهشتي لهذا الاختيار لزميل وثيق الصلة به، إذ كيف له أن يدير المجلس مع وجود المعارضة؟ وكان في ذهني برلمانَي 1984 و1987.. قال إنه سأل فتحي سرور فأجابه بأنه لن يكون ضعيفا أبدا، وأنه سيطبق اللائحة بإلزام كل معارض حدوده، وأنه قادر على ذلك!

إدارة الهجوم على الوزراء:

بيد أنه كان محظوظا، فقد ارتكبت أحزاب المعارضة خطأ عمرها بمقاطعة انتخابات 1990، بعد الحضور القوي لها في البرلمانات السابقة، على النحو الذي مكنه من برلمان هادئ، واستمر الحال في برلمان 1995، حيث المعارضة المستأنسة، فلما جاء برلمانا 2000 و2005، كان قد تمرس على الإدارة، وعلى كيفية أن يكون أكثر تمكناً من التعامل مع المشهد السياسي، وإن كان أضعف من أن يمرر استجواباً أو أي إجراء ضد وزير الداخلية (حبيب العادلي)، الذي يؤمّن له دائرته (السيدة زينب)، ويمكنه من خوض الانتخابات بدون منافسة تقريباً، مع البطش بأي منافس جاد؛ وإن لم يكن بعيداً عن الهجوم على وزراء بعينهم من جانب معارضين تحت القبة، دون أن يظهر في الصورة، وكان يلزم أحياناً أن يفهم الوزراء أنه قد يمكن نواباً من أن يمسحوا بهم البلاط بمثل ذلك الأداء، فيعملون حساباً له، ويتقربون إليه بتنفيذ الطلبات الخاصة بأبناء دائرته!

ذات مرة استقبلت سفيراً سابقاً ومستشاراً لإحدى الوزارات، وابنته الموظفة في إحدى المؤسسات الخاضعة لرقابة وزارة المالية، وكانت وزميلاتها قد تقدمن باستقالاتهن لقبول عرض أفضل في مؤسسة أجنبية، وكانت المؤسسة الأولى قد حصلت على تواقيعهن على إقرارات أنه في حالة الاستقالة فإن عليهن دفع مبلغ مالي كبير (لا أتذكره)، ووقّعن على شيك بالمبلغ، ولما لم يفعلن حركت المؤسسة ضدهن الدعوى الجنائية، وكتبتُ عن الواقعة، وفي يوم نشر ما كتبته كانت القضية موضوع مساءلة للوزير المختص، وهو وزير المالية يوسف بطرس غالي، ولم أكن أعرف أن السفير صديق لفتحي سرور، فقد جاء لي بتوصية من زميلة في صحيفة أخرى!

كان الوزير المذكور يتصرف على أنه “ليمونة في بلد قرفانة”، ولا يكترث بالبرلمان والنواب، ويجلس في موقعه وهو يمضغ العلقة بفجاجة، أو يأكل المكسرات بعدم لياقة تثبت نفوذه، لأنه كان مقرباً من مبارك وأسرته، وكان ينادي الرئيس يا “أونكل”، الأمر الذي مكنه من أن يتصرف في البلد تصرف المالك في ما يملك، ومكنه من الاستيلاء على أموال التأمينات، رغم اعتراض الوزيرة المسؤولة، فمن يقدر على بطرس غالي؟!

عندما بدأت الجلسة في ذلك الصباح، أرسل فتحي سرور من منصته الجريدة مفتوحة على قضية الفتيات لأحد النواب المعارضين صوتاً، مع ورقة مكتوب عليها، وكثيراً ما كان يفعل دون أن يسأل أحد عن المكتوب في هذه الورقة، ولولا أنها تحط من قدر المرسلة إليه في جانب كبير منها – لأنهم كانوا يتحركون بالريموت كنترول- لكانت موضوعاً صحفياً مثيراً!

فبعد اغتيال السادات بسنوات اتصل وزير الأوقاف السابق زكريا البري بالنائب في مجلس الشعب الشيخ صلاح أبو إسماعيل، ليخبره بأنه عثر على ورقة بخط السادات تخصه، فأرسل من يستلمها منه، وكانت بخط السادات.. فبعد أن هاجم الشيخ النائب دعوة السادات بأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وقال له: ” متى تتوقف عن هذا الكلام الفارغ؟”، كتب السادات في غضب: “يُستدعى عبد المنعم النمر، وزكريا البري، ليمسحوا بكرامة صلاح أبو إسماعيل الأرض”!

لكن، حتى أوزان من كانوا ينفذون التعليمات اختلفت، فليسوا في مستوى البري الذي لم يجد حرجا في أن يُطلع الشيخ على ورقة مثل هذه، تماما كما لم يجد النمر نفسه مستعداً للف والدوران، إذ سأله الشيخ صلاح عن الذي استفاده الآن من نفاقه للسادات بعد اغتياله، فقال: “حُمِّلنا أوزاراً من زينة القوم”!

فور تقدم النائب المعارض (أداءً) بطلب الإحاطة، أعلن فتحي سرور رئيس المجلس من فوره انتهاز فرصة وجود الوزير لمناقشة الطلب حالاً، وفهم الوزير “الفولة”، فسلم بدون مناقشة بأنه سيحل المشكلة، لكن سرور قال له إن هذا لا يكفي، بل عليه أن يتعهد للمجلس بسحب الدعاوى القضائية.. فوعد!

عاطف والمقاطف:

المهم.. فاختيار فتحي سرور لرئاسة المجلس خلفاً لصاحب الكفاءة النادرة رفعت المحجوب، كان مع تمكن مبارك من مقاليد الأمور، وانتقاله ليكون الحاكم الفرد، بعد مرحلة كان فيها يتمرن على السياسة في حضور أساتذة لها، وهي المرحلة التي قال فيها هيكل: “لا أعرف من يحكم مصر الآن”؟!

لكن الانتقال إلى هذه المرحلة على مستوى الحكومة كان قد بدأ مبكراً، فبوفاة رئيس الوزراء القوي فؤاد محيي الدين عُين علي لطفي لفترة قصيرة، قبل أن يتولى رئاسة مجلس الشورى، ثم اختير عاطف صدقي، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وكان اقتصادياً كبيراً، لكنه كان صاحب شخصية ضعيفة، وهو أحد تلاميذ اليساري إسماعيل صبري عبد الله، وألف كتاباً منحازاً للاقتصاد الاشتراكي، لكنه تحول مع الريح سريعاً، وعقب اختياره كتب مصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار مقالا، أبدى فيه دهشته لهذا الاختيار، لكن تبين أنه اختيار للرجل المناسب، وقد حمل المقال عنوان: “عاطف والمقاطف”!.

وفي حفل استقبال، وعندما رأى عاطف صدقي محمد عامر، رئيس تحرير جريدة الأحرار، اندفع نحوه معاتباً: أنا تصفني جريدتك بأني مقطف؟ فما كان من رئيس التحرير إلا أن نادى على مصطفى مراد بصوت جهير، وكان يقف غير بعيد مع آخرين فأزعجه الأمر، وعندما قال له إن الدكتور عاطف غاضب من مقال “عاطف والمقاطف” قال بحدته المعروفة: مقطف وستين مقطف!

ولم يكن سراً أن عاطف صدقي لم يكن يبسط نفوذه على الوزراء الحزبيين أو الأمنيين، ولم يكن له نفوذ من أصله عليهم، لكنها كانت فلسفة مبارك للاختيار، ولهذا عمّر صدقي في موقعه أكثر من تسع سنين!

وتردد أنه عندما استدعاه مبارك ليعرض عليه تشكيل الحكومة – وفي العادة فإنه لا تتم مفاتحة المختار إلا في اللقاء- اعتقد الرجل أنه سيعينه في مجلس الشورى، ومن ثم أخرج من جيبه ورقة تلاها: إن القانون يمنع الجمع بين رئاسة الجهاز وعضوية البرلمان، وضحك مبارك وهو يفخّم من الدور الذي ينتظره: لقد اخترتك رئيساً للحكومة!

وبعد ذلك بأربع سنوات مكنت الأقدار مبارك من أن تمتد فلسفته في الاختيار إلى البرلمان، فكان فتحي سرور بعد اغتيال رفعت المحجوب، مع الاختلاف الكبير بين الشخصيتين، فالمحجوب ينتمي للعهد الناصري، ومن ثم رفض أن يقر المجلس قوانين الخصخصة، مستغلاً بذلك مساحة اللعب المتاحة في بداية عهد مبارك، وهذا الموقف هو الذي جعل الشائعات تنتشر بأن مبارك وراء عملية اغتياله، وهذا غير صحيح؛ ففضلا عن أن الجناة اعترفوا بأنهم من فعلوا، وأن عبد الحليم موسى كان المستهدف، فإن أحداً لم يفرضه عليه لرئاسة برلمان 1984، وكان اختياره يمثل نقطة ضعف، لأنه لم يكن عضواً منتخباً وانما كان ضمن العشرة الذين يعينهم رئيس الجمهورية، وهي ورقة استخدمتها المعارضة ضد المحجوب، إذ كيف لعضو معين أن يرأس برلماناً منتخباً، ورفع مبارك الحرج عن نفسه في الانتخابات التالية بأن رشحه على قائمة الحزب الوطني بمسقط رأسه بمحافظة دمياط!

وكان مبارك قد سأل أحد القانونيين من المعارضة عن سر هذا الهجوم مع أن الدستور لا يمنع من هذا الاختيار، فقال له: وإن لم يمنعه الدستور فإن اختيار المعين يقع ضمن أبغض الحلال!

عبد مأمور:

ولم يكن لفتحي سرور وجهة نظر يطرحها على مبارك، وقد أخبرني أبو الفضل الجيزاوي، النائب في هذه الدورة وأحد الضباط الأحرار، أنه طلب من فتحي سرور أن يفاتح الرئيس في ضرورة تعديل الدستور للانتقال من مرحلة “الاستفتاء” إلى الانتخابات المباشرة، لكن فتحي سرور ضرب على صدره وهو يقول له في دهشة: هل تعتقد أننا نناقش مبارك في شيء؟.. نحن لا نفعل ذلك، فنحن نقف أمامه وهو يقول لنا ما هو المطلوب، وننفذه بدون نقاش!

ولهذا استمر فتحي سرور في موقعه طويلا، من 1990 إلى أن قامت الثورة في 2011، ليرأس خمس دورات برلمانية متتالية، وكان مرشحاً للإطاحة به بعد مقال كتبه إبراهيم سعدة في جريدة “أخبار اليوم” الحكومية ضده، لأنه كان في سهرة بمنزله الصيفي وكان هناك من تطاول على الرئيس مبارك في حضوره ولم يعقب أو يعترض، وكان مرشحاً أن يكون مصيره كمصير الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف، الذي لم يوقف الشيخ محمود محمد شاكر الذي سب عبد الناصر في منزل الوزير، وكان القرار أن يفرض الباقوري على نفسه إقامة جبرية فلا يبارح منزله لعدة سنوات، فلم يغادره إلا لتلبية دعوة المشاركة في حفل زواج كريمة عبد الناصر!

بيد أن المفاجأة، وكنا على موعد مع برلمان جديد، أن استمر فتحي سرور رئيساً للمجلس أيضاً لتحيط بنفوذه الأساطير، ولم يكن الرجل قادراً على فرض أحد الشباب على إبراهيم نافع رئيس مؤسسة الأهرام ليعينه صحفياً بها.

إنها دولة الموظفين التي أسسها مبارك، التي لا تعرف إلا السمع والطاعة لصاحب الدرجة الوظيفية الأعلى.. مع مساحة من حرية الحركة والنفوذ في الحدود المعقولة.

سمعاً وطاعة يا مولاي!

2 التعليقات

  1. مدحت

    أحسنت دكتور وتلك أمة خلت.. ماذا ينتظرنا في المستقبل؟

    الرد
  2. عفت شاكر السيد

    مقال روعه كل عام وانت بخير يااستاذ سليم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...