فرانسوا بورغا.. والذي مضى
بقلم: سليم عزوز
| 4 فبراير, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: سليم عزوز
| 4 فبراير, 2024
فرانسوا بورغا.. والذي مضى
قبل سنوات، اكتشفت الكاتب لقاءه القديم مع فرانسوا بورغا، الذي تأرجح بين البحث الأكاديمي والاكتشاف الشخصي. يستعرض اللقاء تحولات بورغا وتأثيره على الكاتب في ظل الأحداث والتحولات الاجتماعية.
لقاء قديم مع فرانسوا بورغا: بين البحث الأكاديمي ورحلة الاكتشاف الشخصي
قبل سنوات تذكرته، فبحثت عنه عبر “جوجل”، وحمدت الله أنه لا يزال على قيد الحياة، وقد جرت العادة أنني ما أتذكر أحداً غاب عن تفكيري لفترة طويلة، إلا وأسمع خبره – كما يقول المصريون- وخبره هنا تعني الوفاة، أو أراه أمامي!. بعد ذلك بأيام سألني الزميل خالد الشريف إن كنت أعرف شيئاً عنه، وأدهشني أن يقتحم ذاكرتينا في توقيت واحد.
المهم أنني في هذه الفترة رأيته على شاشة الجزيرة، أولاً – حسب ما أظن- في برنامج محمد كريشان “سيناريوهات”، ومن بعد ذلك رأيته كثيراً على الشاشة، وعلمت أنه حل ضيفاً على الجزيرة في الأستوديو، لكن لم أحظ بشرف مقابلته، فهل لا يزال يتذكر ما مضى، وقد مر عليه أكثر من ثلاثين عاماً، عندما التقيته بالقاهرة وحاورته، ونُشر الحوار في جريدة “الأحرار”؟
إن فرانسوا بورغا يتعرض هذه الأيام لحملة شعواء من العنصرية الفرنسية، التي كشفها في عقر دارها، وقد اتهم حكومة بلاده بتبنيها خطاباً عنصرياً بدون لبس، ثم جاءت أحداث السابع من أكتوبر، فاعتصم بإنسانيته الحاضرة دائماً في مشواره الفكري منذ قرابة نصف قرن (هو من مواليد سنة 1948)؛ وهذه الحملة تذكّرنا بما فعله القوم مع روجيه جارودي عندما أشهر إسلامه، وإن ظل بورغا على ديانته، لكن إنصافه في عالم غير منصف يمكن أن يعرّضه لما هو أبعد من مجرد الهجوم عليه، واتهامه من جانب العنصريين بالعنصرية.. رمتني بدائها وانسلت!
بورغا في القاهرة:
جاء فرانسوا بورغا إلى القاهرة في سنة 1990، إن لم تخن الذاكرة، ليكمل مشروعه الذي بدأه لفهم الظاهرة الإسلامية، وكان قد صدر له عن الظاهرة كتاب “صوت من الجنوب”، قرأتُه مترجماً قبل أن أحاوره، وقد تعرفت إليه من خلال شاب جزائري، كان يدرس في الأزهر.
كان الشاب غريب الأطوار، تحدث له تحولات سريعة تترك بصمتها على سلوكه، إذ تراه شابّاً متفرنجاً، وكان يشبه الفرنجة عوداً ولوناً وشعراً ناعماً، وهو طويل إلى حد ما، ثم يتحول في صباح اليوم التالي إلى سلفيّ يرتدي الجلباب، ويلف عمامة بعتبة تشبه عمامة شيوخ الجمعية الشرعية، ثم سرعان ما يعود سيرته الأولى. وفي طلعة من طلعاته – وكان سلفياً ملتزماً- جاءني ليناقشني في مقال كتبته ضد الإسلاميين، فصرنا صديقين مع هذه التحولات!
وكان في حالاته كلها شاباً ودوداً مقبلاً على الحياة، مشغولاً بفهم تفاصيل الحياة في مصر؛ وفي واحدة من هذه الطلعات قرر أن يعيش في منطقة بولاق أبو العلا الشعبية، واندمج في الحالة بدون علم، حتى فوجئت به وهو يجلس بجواري في “صالة التحرير” الممتلئة بالمحررين يقول لي “نعم يا روح أمك”، فلما نظرت إليه غاضباً اعتقد أن المشكلة في المفردة “أمك”، فصحح لنفسه ليقول لي “نعم يا روح أبوك”؟!
وهو في هذه التحولات السريعة كان خدوماً، يساعد الطلاب الفرنسيين من أصول عربية، الذين جاؤوا إلى مصر لإعداد أطروحاتهم، ويساعد طواقم القنوات التلفزيونية الفرنسية في إعداد موضوعاتهم عن مصر، وهو مبهور بها وبكل تفاصيلها.
وأذكر أنه عرفني على باحثة دكتوراه فرنسية من أصول مغربية، كانت أطروحتها عن دور الطرق الصوفية في مصر؛ الطريقة الخلوتية نموذجاً، وعادت من الأقصر حيث المقر الرئيس للطريقة (بيت الطيب)، لأسرة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي، وهي تعتبر أنها تحصلت على كنز ثمين، تمثل في وثائق الصلح بين عائلات أو أشخاص بينهم نزاعات، لاسيما في قضايا الثأر، وكان عليَّ أن أشرح لها ما استغلق عليها فهمه في هذه الوثائق وغيرها من مفردات التصوف الأخرى. وبقدر إعجابي بقصة النقطة البحثية البسيطة “دور الطريقة الخلوتية”، فقد أزعجني أن تقوم الدراسة على فكرة، لو عرفت حقيقتها لفقدت الدراسة قيمتها التي تؤسس لها الباحثة!
النظام في مصر، وربما في عالمنا العربي كله، أن تكون الأطروحة عن الطرق الصوفية جميعها، وربما على مدى قرن من الزمان وعهد من العهود. وهذا النفوذ لواحد من أسرة الطيب (لعله شقيق شيخ الأزهر)، لأن الرجل كبير في قومه؛ وقد نجد شيخاً لطريقة أخرى لا يقوم بمثل هذه الأدوار، فلا يجوز بالتالي الانطلاق من دوره للتعميم، وإثبات حضور أدبي للطرق في المجتمع المصري!
وأخبرت صاحبنا بوجهة نظري فاستهان بالأمر، باعتبار أن مشرفها نفسه فرنسي لا يعرف أبعاد الموضوع، وكل ما سيشغله هو التزامها بالمنهج العلمي في البحث، بغض النظر عن صحة المعلومات؛ لكن التفكير ذهب بي بعيداً إلى دراسات قد يعدها أجانب عن المجتمعات العربية، فيتم النظر إليها على أن ما جاء فيها هو الحق، الذي لا يأتيه الباطل من أي اتجاه، وقد يروج لها أبناء هذه المجتمعات محملين بعقدة الخواجة!
أمه يهودية:
لقد كان هذا الشاب مرحاً إلا عندما يمر بمرحلة الشاب المتدين، لكنه في آخر لقاء بيننا كان حزيناً على غير عادته، وقد سِرنا من الدقي حيث كان يسكن، إلى أن جلس على سور كوبري قصر النيل من ناحية منطقة الجزيرة، وسألت عن سر هذه الكآبة وسبب حزنه العميق، فأجاب وكأنه يكشف لي سرا حربيا أنه اكتشف قبل أيام – ولأول مرة- أن والدته من أسرة يهودية، وحاولت التخفيف عنه، فأجدادنا لم يكونوا قبل الإسلام مسلمين، وهناك مَن أصولهم يهودية أو مسيحية، أو من المشركين، أليس هذا أفضل من أن تكون والدتك من سلالة الست أم جميل حرم الأستاذ أبو لهب؟!
ومع أنه كان في العادة يبحث في الحياة وفي كلامي عما يثير ضحكه، فإنه استمر حزيناً، وقال لي إن الابن في اليهودية لأمه، وقلت له هذا يلزمهم هم ولا يلزمنا بشيء، لكنه بدا غير مهتم بما أقول!
وكثيراً ما كان يخبرني بأن الأمن المصري يرتاب في تحولاته السريعة هذه وعلاقاته، وقد استغلوا في تلك الأيام أنه ترك الدراسة في الأزهر، ومن ثم سقط مبرر إقامته فتم ترحيله إلى الجزائر، وكانت العشرية السوداء التي لا تحتمل تصرفاته الطفولية وبراءته، وقيل إنه استمر هناك يسهل عمل الصحفيين الأجانب، ثم وُجد مقتولاً في إحدى الغابات بطعنة في الظهر، وكتبت أنعيه!
في بيت السماوي:
وفي فترة وجوده في القاهرة، كان قد أخبرني بقدوم الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا، لإعداد كتاب عن الإسلاميين بعد كتابه الأول “صوت من الجنوب”، وأنه يريدني أن أسهل له الالتقاء بالشيخ عبد الله السماوي، وكنت قد أجريت معه حواراً كان قد نُشر للتو، وهو يسكن على مقربة من مقر الجريدة في منطقة عابدين، خلف القصر الجمهوري الذي يحمل هذا الاسم!
شاهدت الشيخ عبد الله السماوي لأول مرة في برنامج “ندوة للرأي”، الذي يذاع على القناة الأولى المصرية ويقدمه المذيع حلمي البلك، وفكرة البرنامج تتضمن قيام علماء الأزهر بمناقشة المنتمين للجماعات الإسلامية، وكان واضحاً أنه جيء به من السجن، فقد كان هذا في السنوات الأولى بعد اغتيال الرئيس السادات.. وأدهشنا هذا الشيخ السمين الذي يطلق لحيته وشعره الذي يتدلى من أسفل عمامته، وهو يتحدث العربية الفصحى، فيبدو أنه يؤدي دوراً في مسلسل ديني؛ وكان في حالة غضب لأنهم استدعوا له أحد أعضاء جماعته ليشهر به، وهو يكرر القول “أنا لا أرد على هذا”، وكان حاضراً الدكتور عبد الغفار عزيز، الأستاذ بجامعة الأزهر وعضو مجلس الشعب في الفترة (1984- 1990) عن حزب الوفد!
كنت قد عرضت في الجريدة كتاباً لمؤلف لا أتذكر اسمه، عن الجماعات الإسلامية المتعددة في مصر، قال إنها 44 جماعة، ومنها جماعة السماويين نسبة لطه السماوي (مشهور باسم عبد الله)، الذي قال إنه يحرم التعليم ويدعو للعيش في الصحراء، ويتهم المجتمع المصري بالجاهلية، ونشر عنه هذا كله.. ثم إنه جاءني والتقيته ونفى كل هذا، ونُشر رده إعمالاً لحق الرد، ثم ذهبت إليه في منزله وأجريت معه حواراً واجهته فيه بكل الاتهامات المنسوبة إليه.
بمجرد دخول شقته في الدور الأرضي من البناية التي يقيم فيها، ترى أن ما يفصلك عن الجو خارجها قرون، فهو يطلب منك بلسان عربي مبين أن تخلع نعليك أمام باب الشقة، لكن بطريقة رقيقة، وبابتسامة عريضة لا تفارق وجهه، على العكس -مثلاً- من الشيخ يوسف البدري، الذي يوجه هذا الطلب بصورة آمرة وشكل خطابي، حتى ليوشك أن يكمل الأمر “اخلع نعليك” بالقول “إنك بالوادي المقدس طوى”.. ربما لأنه مدرس في الأصل!
وعندما طلب مني صديقي الجزائري أن أتوسط لدى الشيخ السماوي لاستقبال فرانسوا بورغا، رحب الرجل على الفور، وفي طريقنا نحن الثلاثة لفتُّ انتباهه إلى ما اعتبرته تصرفاً قد يراه مخالفاً للياقة بطلب خلع حذائه، فلن يكون مسموحاً له بالدخول به، لكنه تعامل مع الأمر ببساطة، وفي اللحظة التي كان الشيخ فيها يفتح الباب كان بورغا قد فعل بدون طلب، ومع أنه كان اللقاء الأول بين الرجلين فقد بدا كل منهما كما لو أنه يعرف الآخر؛ فالبساطة قد جمعت بينهما، وقربت المسافات بين عالمين وثقافتين!
وجلسنا، أنا والجزائري، نستمع لحوار بسيط وعميق بين الباحث والشيخ.. سأله بورغا عن مسيرته، وفكره، ومعتقداته، واتهامه بأنه يكفّر المجتمعات؛ معي قال إنه لا يكفّر مسلماً بذنب مالم يستحلّه، وإن الإسلام يعذر المجتهد باجتهاده المتأول بتأويله.
كانت هذه قصة لقاء قديم مع فرانسوا بورغا الذي لم يتغير، لكن الصدر الفرنسي صار ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّد في السماء!
هل صار فعلاً ضيقاً، أم إنه كذلك دوماً؟!
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق