فلسطين بين معركة الفتح ومعركة الضمير

بواسطة | أكتوبر 20, 2023

بواسطة | أكتوبر 20, 2023

فلسطين بين معركة الفتح ومعركة الضمير

لسنوات كان من “بروتوكول الدعاء” الذي يقوم به إمام مسجدنا بعد انتهاء خطبة الجمعة، أو في صلاة التراويح والتهجد، ذلك الدعاء المؤثِّر بأن يحرر “الله” المسجد الأقصى من أيدي اليهود الظالمين!.. وكنا -أنا وصاحبي- نقول “آمين”، وتختلف حماستنا حسب الموقف، والحالة المزاجية، والوضع الراهن، وصِدْق الإمام وحماسته..
وجرت في نهر الحياة أحداث، وجاء يوم السابع من أكتوبر، لنستيقظ على مشهد يسرّ الحبيب ويكيد العدو، ويُقلق مَن في قلبه مرض.. ثمة أناس من بني جلدتنا، يطيرون في السماء، ويحطمون الموانع والسدود، ويزحفون في أنفاق تحتها، مقتحمين الأرض التي طالما دعَوْنا الله أن يحررها.
بدا وكأن ما ظنناه من نوافل الدعاء هو الأقرب للتحقق ونحن شهود، خطوة أولى تحمل دلالات هامة، ولحظة تاريخية يتوجب علينا الشعور بها والالتحام معها، وفوق هذا.. الإيمان بما بعدها. غير أن صاحبي الذي كان يدعو بجانبي أن يحرر “الله” المسجد الأقصى لم يبتهج، وظل يحدثني لدقائق عن المؤامرة، والخطة الشاملة، والخديعة الكبرى، قبل أن يعود للوقوف على حبل أوهامه محاولاً الحفاظ على ضميره من السقوط قائلا: لا شك أن المقاومة قد أخلصت نيتها لله، لكنها لا تدرك خطورة ما تفعله!
صاحبي هذا ليس أكثر من وغد آخر، أحد أبناء القهر الذين بِيع لهم وهْم الخوف من كل شيء، فصار يخوِّف نفسه بنفسه، يظن بأن كل شيء قابل للتقسيم، بدءاً من أرض فلسطين وانتهاء بضميره، صاحبي يحاول أن يهرب من مسؤوليته الأخلاقية في دعم الحق، وهو في الوقت نفسه متجهز للقفز فرحاً حينما ينتصر، يحزن على أطفال غزة حزن خبيث، يخبرك أن إسرائيل ظالمة لكن من أطلق الرصاصة الأولى يتحمل جزءاً من المسؤولية!
والسؤال عن الدعاء الذي ردَّده أو أمَّن عليه صاحبي -وغيره الآلآف- عن نُصرة فلسطين، أكان يقصد حقاً أن يعيدها “الله” بمعجزة، أم إنه صدَّق شيخه حينما دعا ربَّه ذات ليلة يُظن أنها ليلة قدر، بأن يضرب الله الظالمين بالظالمين ويخرجنا من بينهم سالمين؟! كيف يصدق أن هذا سوف يحدث، والظالمون لم يجتمعوا إلا على ضربنا، ولم تتوحد قلوبهم إلا على سحقنا؟ كيف لم يفهم أن الظالمين لا يضربون بعضهم إلا عند توزيعنا كغنيمة؟ كيف غاب عن ذهنه وذهن شيخه أن طريقة الله في الأرض أن يتصادم الحق مع الباطل، وأنّ من سننه -سبحانه- أن ينتصر الأقوى، والأكثر إيماناً بموقفه، الصامد بلا تخاذل، أو تواكل، أو شك؟!
إسرائيل لم تفعل جديداً نُفاجأ به، فعلت ما كانت تفعله مع المصريين في حرب الاستنزاف، تضرب قوات الكوماندوز المصرية هدفاً عسكريا في أرضها المحتلة بسيناء، فيقصف الجيش الغاصب مصنعا فيه مئات العمال، أو مدرسة فيها مئات الأطفال، أو محطة كهرباء في عمق الدولة المصرية.. خِسَّة لطالما تعودنا عليها. لكن صاحبي يؤلمه ما حدث، ويصرخ مفجوعاً أن حياة الأبرياء غالية!. والحقيقة أنها غالية، لكنها الثمن المحتوم الذي يفرضه الظالم الجبار على المظلوم الأبيّ الصامد، الثمن الذي قدمه كل شريف حرر وطنه باذلاً دمه ودم من يحب قرباناً له.
لا يدرك صاحبي -أو لعله يدرك- أن الظالم لا يطمح منه إلى أكثر من هذا، أن يقوم بعملية تقسيم لضميره، يتعاطف بميوعة، يتشكك في موعود الله، يرتاب في كل شيء..
كلانا يعترف بأن دخول المقاومة لغلاف غزة ليس منطقياً، وبدلاً من رفع القبعة لمن جعله منطقياً، يخبرك أن في الأمر ثمة أمر!، ما زال الأبله يؤمن بالعدو أكثر مما يؤمن الأعداء بأنفسم، ينظف أوساخهم، ويحفظ لهم ماء وجه أراقته المقاومة.
يبدو أننا في زمن نحتاج أن نراجع فيه البديهيات، وتلك لعمري أكبر المعضلات..
بديهية أن الكفاح شرف، ومقاومة الظلم حق، والاحتفاء به واجب.. بديهية أن الحق دائماً أقوى حينما تكون قيمته في ضمير أتباعه أكبر من قيمة الباطل في نفوس جنوده وزبانيته، وأن كل ثورات الدنيا بدأت من خدش بسيط صنعه الحق في وجه الباطل، فتأكد لكليهما أن الحرب ما زالت دائرة، وأن بعض الليالي أطول من بعضها.
بديهية أن سنن الله في الأرض يجب الأخذ بها، وأنه سبحانه -وهو القادر- لن يعيد المسجد الأقصى ونحن هانئون، ولن يضرب ظالمين بظالمين، ولن يرسل فيض مدده لمن يرى بأن الحق عليه أن يخمد للأبد ما دام الظالم جبارا أو سفاحا.. بديهية أن الحق لا ينتصر بمجرد كونه حقا، وإنما بقدرته على فرض نفسه بقوة المنطق والسيف.
ولطالما أرقني في صباي السؤال: لقد آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم خلق قليل في مكة، وحاربته عصبة لا تمثل -يقيناً- كل مكة، فما كان موقف باقي الناس؟. الآن قد عرفت الجواب.! ففي معارك الحق والباطل نجد أهل حق وأهل باطل.. ونجد أمثال صاحبي هذا!
إنهم الذين يُجرون على ضمائرهم عملية تقسيم، ففي جزء من ضمائرهم حقيقة تقول “محمد صادق أمين بحكم المنطق والتاريخ” وفي جزء آخر يقولون “لكنه ارتقى الصعب، وعليه -وهو الرجل الطيب- أن يدفع الثمن”.. هم مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. لم يشتبكوا، ولم يتخذوا موقفاً.. سجناء الخوف عند الأزمة، طلقاء عند الفتح!
وفلسطين حالها كحال النبي.. محاصرة بالظالمين على مختلف مشاربهم، وبأصحاب الضمائر المطاطة القابلة للتقسيم.. وعند نصرها سيأتي أمثال هؤلاء مهللين يطلبون الغنيمة، غير أن فلسطين تعرف جيداً أبناءها، والأقصى يحفظ أسماء من حفظوه، أما الآخرون فسيكونون طلقاء الفتح، المؤلفة قلوبهم، سيأتون بابتسامتهم الصفراء وهم يسحبون ضمائرهم المترهلة من “المط” خلفهم..
فلسطين لا تحاسب أحداً، والتاريخ كعادته كذاب لطالما غض الطرف عن أشياء وأشياء.. لكن الله مُطّلع على الضمائر، وقد جهز ميزانه ومد صراطه المستقيم.
وحتى هذا اليوم.. نسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن يضرب الظالمين بنا، وألا يفتننا في الحق، وأن يقينا بفضله سوء الطويَّة وبلادة الضمير.
وعلى الله قصد السبيل..

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

كنتُ أهاتف الشيخ عبد الوهاب الطريري ونتحدث عن الكتب وشؤون المطابع وقصص من حياة المؤلفين.. والنقاش مع الشيخ الطريري ممتع ومفيد ومليء بالفوائد، فهو يتذوق القصة الجميلة، ويطرب للعبارة الحلوة، ويتأمل في حياة المؤلفين والكُتَّاب، وكمْ حدَّثني عن مقالات الزيَّات وعصر مجلة...

قراءة المزيد
عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
Loading...