في استعادة الدرس التربوي

بواسطة | يوليو 20, 2023

بواسطة | يوليو 20, 2023

في استعادة الدرس التربوي

التعليم تربية.. وحين نلفي أنفسنا ننزع عن الشيء قلبه النبوض، ونزرع -عوضا عن فؤاده- بطارية مشحونة بمفاهيم ومثل مهجنة، فكأنما كذبنا المدرك، وخلعنا على الماهية ما ينافرها.
أصلت مسألة التعليم في بواكير التجربة الإنسانية، بما هي تحصيل ذهني يتوجه نحو تهذيب الطباع، وهكذا شاعت بين جنس البشر؛ وعندما جاء الإسلام، فقد وضع تعاليمه وشرائعه على النهج الذي يعزز مكارم الأخلاق، وبوصف الأخلاق الكريمة وعاء التربية التي تقرن القول بالعمل.
يتواتر في بعض سرديات النقد في الغرب، أن نظام التعليم الحديث قد تأسس على وظيفتين رئيستين لا يراوحهما، وهما: تأديب الإنسان الفرد، التابع في نسبه الدنيوي ووجوده الماهوي لكيان سياسي وثقافي ومعرفي [أبستمولوجي] يسمى دولة؛ ومن ثم إعداد -هذا الإنسان نفسه- وإكسابه السمات اللازمة التي تجعله قادرا على الانخراط في سوق العمل. ومدار التأديب هنا هو غرس ما يعرف بالقيم الوطنية، التي تصنع مواطنا صالحا، طيعا ومواظبا. أما الإعداد فإنما يجيء ليحقق حاجة السوق، المتمثلة في وجود عنصر بشري حاز من مهارات التشغيل والتنفيذ، ما يؤمن سيرورة الإنتاج، ليكون ذلك الإنسان الصالح الطيع المواظب إنسانا منتجا، أيضا.
هناك وظائف أخرى يسعى التعليم الحديث نحو إشباعها، لكنها تأتي لاحقا، وبالتبعية، وحالها لا يتجاوز الطواف في فلك تينك الوظيفتين: التأديب والإعداد.

الدولة تنحاز بنيويا لرؤى للكتل المتفوقة داخلها، وبصورة أدق، يجد نظام الدولة في ذاته نزوعا قسريا نحو توجيهات الكتل المتفوقة، خاصة، في تعاطيها مع ملفات الحكم والأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية

تلك السرديات النقدية، التي أبرزت هذين المفصلين الوظيفيين في صلب نظام التعليم الحديث، قدمت أطروحتها هذه في سياق استجابتها لمشكلات النظام التعليمي المتعقدة، كما في سعيها إلى تشخيص علله الكامنة في أعماق ثقافية وتاريخية وفلسفية مأخوذة بالتركيب والتداخل. ولأن الزمان قد أثبت قصور المنظومة التعليمية الحديثة عن الكفاية في الحد من ظواهر، باتت علقة في الفضاءات الاجتماعية الغربية المتعددة، رغم قوة الدولة وبأسها ورسوخ مؤسساتها في كل تلكم الفضاءات، مثل ظواهر العنف والسرقة والعنصرية والتفكك الأسري، فقد آلى أصحاب ذلك النقد على أنفسهم (وجلهم محسوبون على التيارات اليسارية) تعرية الدوافع التي نسجت من حبائلها فلسفة التعليم، كما هو متجسد في المدارس الحديثة. لذا، لم يعد ممكنا حينئذ ضرب الصفح عن حقائق عدة، متواشجة، تصوغ في المحصلة الكاملة المشهد الحقيقي للظاهرة التعليمية المعاصرة.
إذا كانت الدولة في أحسن أحوالها الديمقراطية كيانا تابعا لإرادة الأغلبية، حافظا لأمن الأقلية، مساويا بين حقوق مواطنيه في المشاركة والتمثيل والتوزيع، حارسا لوجودهم السياسي، ضامنا لتكافؤ الفرص، لا ينزع يد الانقياد نحو هذا المركب المشترك، بوصفه مرجع الأسس والمبادئ ذات الإجماع؛ ولكنه -مع ذلك- يظل خاضعا لمكونات بنيوية، ليس بوسعه أن يتجاوزها، مثل: أحزاب سياسية صلبة ومؤدلجة ومهيمنة، نخب تجارية نافذة، مقتضيات سوق اقتصادية وعسكرية، وهي تقوم -أي هذه المكونات- مقام العوامل التي تستدعي من وقت لآخر مساءلة حياد الدولة؛ لذا يظهر لدينا في ضوء ما سبق، أن الدولة تنحاز بنيويا لرؤى للكتل المتفوقة داخلها، وبصورة أدق، يجد نظام الدولة في ذاته نزوعا قسريا نحو توجيهات الكتل المتفوقة، خاصة، في تعاطيها مع ملفات الحكم والأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية، بما في ذلك ملف التعليم. من هنا وفي هذه الحالة، يتنزل نظام التعليم تنزيلا يكرس رؤى الكتل تلك، فتغدو مناهجه وقوانينه وسياساته، تغذي في طياتها مصالحهم، أو تعزز ما يرونه نفوذهم السائد في البلاد؛ وبقدر أعمق من التوغل سنكتشف طغيان الرأسمال الاقتصادي على ما سواه، وأن التعليم بوصفه أحد الأجهزة المركزية في بنية الدولة الحديثة، قد وجد ليكون خادما من خدام رأسمال السوق، الذي يهيمن -عمليا- على منطق عمل الدولة ذاتها.
ثمة إذن تراتبية صارمة، بل “تباطنية” محكمة، إذا جاز التعبير.. تعليم في بطن الدولة، ودولة في بطن السوق، وسوق في بطن نوازع الرأسمال وأهوائه!. هكذا خاطب النقاد منظومة التعليم الحديث، بخطاب لاذع مستطير يتصدى لأزمتها في المجتمع الغربي الممتد، حيث رأوا أن عجز التعليم عن رفع مستويات الرخاء والعدالة والأمن والمساواة، مقابل تصاعد معدلات العنف والتفاوت الطبقي والجريمة، هو عجز مستدام وثيق الصلة باستبداد الرأسمال، الذي نصب ذاته قطب رحى الأشياء من حوله، وسيدها الذي يراد لسيادته أن تكون أبدية، فتصير كل الشؤون كالشأن التعليمي، رهينة حوائج رأس المال ومتطلباته.

الأزمة تظل قائمة، لأن صراع النوازع البشرية حتمية طبيعية؛ وإذا كان لا بد من أمر ما، فلا بد من التكيف معه، واستقبال إكراهاته، وتقبلها، والمضي قدما، رغم الآلام الأخلاقية الناجمة عن كل ذلك.

إن المرمى الذي يريدون تصويبه في خطابهم النقدي هذا، لا يعدو أن يكون نظام الرأسمال ذاته، فهو مولد الأهوال، ومدار العلل؛ وأزمة التعليم في هكذا تعقيد، لا تنفع معها مشاريع الإصلاح السادرة في تفاؤلها؛ بل سذاجتها، فما أكثر ما أنفقت في سبيل إصلاحه خطط وأموال لا حصر لها، دون أن تعود بالجدوى. الإصلاح إذن جذري وبنيوي، ويذهب مباشرة نحو الأسس الرأسمالية -غير الموضوعية- المغروسة في أحشاء الوجود الراهن، ليستبدل بها أسسا غير موضوعية أيضا، بل أيديولوجية، ذلك أن الأيديولوجيا -في زماننا- شيء عضوي، لا يمكن اقتلاعه ولا تجاهله، ولكن يمكن -فقط- التماهي معه والنظر عبر مرآته، بشرط أن تكون عدسة مرآة الأيديولوجيا الجديدة، أكثر عدالة وإنصافا، بحيث يزاح “تابو” التجارة عن صلب عمل المؤسسات، ويكون الإنسان مركزها الذي تعمل من أجله.
هكذا سكنت أزمة التعليم، في نظر التيار النقدي (ذي النزوع اليساري)؛ وهي أزمة، لأنها لصيقة عهد بتذبذب طويل لم يتوقف، ولا يبدو أنه سينتهي عما قريب، ما يفيد غياب الحل الممكن. أو بالأصح ما ثمة إمكانية حل، عدا أن تبدل البنى برمتها. وهذا مطمع عصي، ومنال بعيد، لذا فالأزمة تظل قائمة، لأن صراع النوازع البشرية حتمية طبيعية؛ وإذا كان لا بد من أمر ما، فلا بد من التكيف معه، واستقبال إكراهاته، وتقبلها، والمضي قدما، رغم الآلام الأخلاقية الناجمة عن كل ذلك.
تعد الفقرات السابقة مونولوجا مكثفا، أو حوارا داخليا -مختزلا- داخل الذهنية الغربية المعاصرة؛ ذلك أن عصرها الذهبي الرغيد، وعلو كعبها، وتمتعها بالتفوق، وشعورها بذلك، لم يقف حائلا دون اهتزاز إيمانها بالمكتسبات الحضارية التي روكمت بين أيديها؛ وذلك لما بات يعتريها من اختلال، وضعف يقين، وإخفاق في تقويم الانحرافات المتزايدة عن نظمها ومؤسساتها. وهذه السمات الثلاث الآنفة هي عناصر الأزمة، كما يراها الفيلسوف الفرنسي إدغار موران.

ثمة تأثيرا جارفا من طرف على طرف، وما المدارس الأجنبية والمناهج الإنجليزية إلا شواهد على انطباق البنية التعليمية لدينا وبوصفنا تابعين

وبينما يكون استئصال شأفة الرأسمال -لدى البعض- هو الخلاص الأوحد لا من اعتلالات التعليم وحسب، ولكن من آفات الطباع الثاوية في علاقات الأفراد والمجتمع أيضا، تلك العلاقات المخترقة برماح التشيؤ والاستهلاك، السائغة بين أنياب الاستغلال والإفقار؛ فإن المخرج لدى البعض الآخر يتمثل في استعادة القيم الروحية التي استلبتها الحداثة، وتخصيص حيز أكبر للدين في المجال العام، لكونه القادر على تقويم أعطاب الإنسان الحديث، ورده إلى صوابه.
بإمكاننا أن ننظر إلى مشكلات التعليم في الخليج، من عين المنظار الذي شخصت عبره إشكالات الواقع التعليمي “التربوي” في الفضاءات الغربية، ونكتفي عند هذا الحد، بأي ذريعة ما: بذريعة أن بنية المؤسسة التعليمية الحديثة، في أي مكان كانت، هي بنية علمانية بالضرورة، ومرد علمانيتها هو حالة التعميم التي توسم بها جل المؤسسات السائدة في مختلف بلدان العالم، المستعارة من “الغرب العلماني”؛ أو بذريعة طبائع العلاقة بين “شرقنا” و “غربهم”، القائمة على واقع انحطاط ميزان القوى لصالحهم، وأن ثمة تأثيرا جارفا من طرف على طرف، وما المدارس الأجنبية والمناهج الإنجليزية إلا شواهد على انطباق البنية التعليمية لدينا وبوصفنا تابعين، مع بنية التعليم السائدة في العالم الغربي وبوصفه المتبوع، ما يعني أن الحلول التي تساق وتستخدم في الغرب، سواء النظرية أو العملية، صالحة للاستخدام في مساقاتنا.
لا ريب حتما أن الاكتفاء عند هذا الطرح، بدون ابتكار آراء خاصة -بل شديدة الخاصية- بخارطتنا المؤسسية، من حيث وجود علاقة لازمة بينها وبين الأرضية الثقافية في الخليج العربي، يعني غياب التشخيص الحي للحالة، أي التخلف عن أداء مهمة بدهية، والنكوص عن توفير معطى، يفترض أن يكون مسبقا؛ وإذا افتقدت هذه الحلقة الأولى الرئيسة من عملية التفكير في إصلاح منظومة ضخمة وحساسة مثل منظومة التعليم التربوية، فالجهود اللاحقة محض هباء سلبي هائل.

حال الشأن التعليمي في العقدين الأخيرين من رحلة الخليج، إلى ميدان للإنزالات “الباراشوتية”. لم تراع خصوصية التعليم على مستوى السياسات العامة وإلزاماتها الثقافية المعبرة عن حق الناس في تعليم يلائم تقاليدهم

في مطالع تجربة التعليم في الخليج، كان الاقتران بين التربية والتعليم واضحا، وذا رسوخ في الذهنية المؤسسة، وذا أثر عملي كذلك. لم يجابه الشأن التعليمي ما يفض انعقاد أمره بالشأن التربوي، طوال العقود السابقة على الألفية الجديدة. إذ بعد الألفية، ولجت السياسات التعليمية في أتون مرحلة عاصفة، أخذت أحوالها بعضها بتلابيب بعض، واختلط -بل أخضع- التعليمي والتربوي والثقافي لسلطة السياسي والاقتصادي، فراح العاملان الأخيران يهندسان ما سواهما حسب اشتهائهما.
لقد حال الشأن التعليمي في العقدين الأخيرين من رحلة الخليج، إلى ميدان للإنزالات “الباراشوتية”. لم تراع خصوصية التعليم على مستوى السياسات العامة وإلزاماتها الثقافية المعبرة عن حق الناس في تعليم يلائم تقاليدهم، ولا على مستوى ضغوطات السياسة الخارجية بحيث يتحقق عزل -ولو جزئي- بين الشأن الداخلي ونسق السلوك في العلاقات الثنائية والدولية، بوصفها رغبة سيادية، بل مارست القوة الأمريكية ضغوطها الاستباحية على حلق التعليم والتربية والثقافة، بحجج محاربة التطرف، وتجفيف منابعه المحتملة، فيما كان ذلك هو التطرف “بشحمه ولحمه”.
ثمة بنية تحتية في المؤسسة الخليجية لا تزال تحتفظ باستقلالها المعقول عن المؤسسة الغربية، رغم ما بينهما من تقاطع “وجودي/أنطولوجي”؛ وهذا التقاطع يتمثل تحديدا في تبعية المؤسستين -في الخليج والغرب- لمصلحة الدولة قبل أن تكونا تابعتين للدين أو للأخلاق، أما الاستقلالية فهي متحققة بسبب نمط العلاقات بين الفاعلين في الحكم ومجموع السكان، إذ تمتح ذهنيات الطرفين من مرجعية ثقافية واحدة، ظلت تحافظ على قدر كبير من تماسكها. يتبين لنا -بعد تقرير هذا البعد- أن التفكير في مشكلات التعليم في فضاء الخليج لا يمكن أن يكون تابعا لتفكير في مساق جغرافي آخر، إذ سيصبح الحال على هذا الوجه “تفكير ضد الخليج”، بما سيستدعيه من أسئلة تضليلية لا تحقق لها على أرض الواقع، وبما سيجتره من حلول طوباوية منزوعة السياق.

لم يعد بإمكان التطوير الموجه نحو منظومة التعليم، أن يقتصر على نطاق التعليم وحده؛ إنما بات يستلزم تعميمه ليشمل نطاقات أخرى، كإصلاح بنية الاقتصاد، والسياسة والثقافة والإعلام وغيرها.

إذا نظرنا نحو التحولات التعليمية التي وقعت خلال ذينك العقدين، كالفصل الذي اعترى العلاقة بين التربوي والتعليمي، إلى جانب المشكلات الناشئة نتيجة قصور منظومة التعليم في دول الخليج عن مواكبة تقدم الزمن، في بعض الحالات، فلربما وقر في أذهاننا حينها، مجموعة من القناعات الأولية، منها:
أولا: إصلاح التعليم لا يجب أن يكون بالضرورة التحاقا بما نحسبه متقدم، بل قد يتطلب الرجوع إلى ما تخلينا عنه عنوة وجزافا.
ثانيا: لم يعد بإمكان التطوير الموجه نحو منظومة التعليم، أن يقتصر على نطاق التعليم وحده؛ إنما بات يستلزم تعميمه ليشمل نطاقات أخرى، كإصلاح بنية الاقتصاد، والسياسة والثقافة والإعلام وغيرها.
ثالثا: تبدو عملية الإصلاح مستحيلة أحيانا، وأنه في ظل بقاء موازين القوى الإقليمية والدولية على حالها، فما ثمة إصلاح في الأفق، اللهم إلا أن تتبدل تلك الموازين بنفسها، أو أن يتحقق الإصلاح النسبي المعقول عبر مبادرة ذاتية تأخذ بزمام الفرص المواتية؛ وللمبادرات الذاتية شروطها وشجونها وأهوالها، وأحوالها.
رابعا: التعليم ليس صنو التربية فحسب، ولكنه ظلها الذي يرافق خطوها أين ما وجهت، وحين يخبب بين الضوء وظله، تقع العتمة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...