في التأويل الرغائبي للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية

بواسطة | أبريل 24, 2024

بواسطة | أبريل 24, 2024

في التأويل الرغائبي للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية

أثارت أول مواجهة عسكرية علنية بين إيران وإسرائيل الكثير من الجدل في العالم العربي، سيما في الفضاء الافتراضي؛ وكان لافتا أن البعض ذهب إلى الجزم بأن تبادل اللكمات المحدود بين الجانبين كان مجرد مسرحية، اتفقت طهران وتل أبيب وواشنطن على إخراج مشاهدها مسبقا.

فبعض الذين يتبنون هذا التأويل قد تأثروا بالدعاوى القديمة المتهافتة، التي عششت في أذهان البعض، والقائلة إن الصراع بين إيران وإسرائيل صراع “وهمي”، يخفي وراءه تفاهمات – بل وتعاوناً- بين الجانبين.

وتلعب التأثيرات التي أفرزتها ثنائية السنة والشيعة دورا مهما في إملاء تصورات البعض لطابع الاعتبارات، التي تحكم توجهات إيران الإقليمية والدولية؛ حيث يحفز الاستلاب لهذه الثنائية إخضاع التعاطي مع سياسات إيران الخارجية إلى اعتبارات مذهبية. كما أن الموقف من سياسات إيران وسلوكها تجاه العديد من الدول العربية – وتحديدا في سورية- يؤثر على تقييم الكثيرين لسياسات طهران، وتحديدا تجاه إسرائيل.

إن الذي يفند حجج الذين يتلبسون بهذا التأويل الرغائبي للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية يكمن تحديدا في سلوك إسرائيل؛ فإسرائيل لم يحدث أن تعاطت مع الكيانات السياسية والتنظيمية في العالمين العربي والإسلامي على أسس مذهبية أو دينية أو أيديولوجية أو مناطقية؛ بل باعتبار مقدار انخراط هذه الكيانات وتلك التنظيمات في سياقات صراع ومواجهة مع هذا الكيان؛ وقدر ما تعكف عليه من مشاريع نهضة لمراكمة القوة، بشكل يفضي إلى خسارة الصهاينة تفوقهم النوعي على الصعيدين العسكري والتقني في المجالين، التقليدي وغير التقليدي.

وعلى هذا الأساس حاربت إسرائيل نظام جمال عبد الناصر القومي، وشنت حربا على فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ذات التوجهات العلمانية، وواجهت حركة حماس “السنية”، ودمرت عام 1981 المفاعل النووي الذي بناه صدام حسين البعثي؛ في حين قصفت في 2007 منشأة بحثية نووية تابعة لبشار الأسد.

ليس هذا فحسب، بل إن اتفاق التطبيع، لم يحُل دون تحرك إسرائيل في حملة ضد صفقة تزويد الإمارات بطائرات “إف 35” الأمريكية، خشية أن يخسر سلاح جوها تفوقه النوعي، وهو ما أدى في النهاية إلى إلغاء الصفقة؛ وكذلك حالت التحركات الأمريكية دون موافقة إدارتي ترامب وبايدن على تزويد السعودية بمفاعل نووي للأغراض السلمية.

من هذا المنطلق، فإن إسرائيل ترى حاليا في إيران تهديدا وجوديا واستراتيجيا لثلاثة أسباب رئيسة:

أولا: البرنامج النووي الإيراني، حيث لا تخشى إسرائيل بالضرورة أن تستخدم طهران السلاح النووي – في حال نجحت في تطويره- ضدها؛ بل إن تل أبيب تفترض أن إضفاء شرعية دولية وإقليمية على امتلاك الإيرانيين سلاحاً نووياً سيسرّع من وتيرة سباق نووي في المنطقة، بحيث يتجه المزيد من الدول – وتحديدا السعودية وتركيا ومصر- إلى تطوير هذا السلاح، ما سيُفقد تل أبيب تفوقها على الصعيد غير التقليدي، ويمثل بالتالي ضربةً نجلاء لقوة ردعها.

ثانيا: تبدي إسرائيل قلقا عميقا من توسيع إيران حضورها الإقليمي، سواء عبر دعم جماعات وتنظيمات في العراق وسورية ولبنان واليمن، أو من خلال حضورها العسكري والاقتصادي والسياسي المباشر.

ثالثا: دعم إيران قوة المقاومة الفلسطينية؛ حيث إنه – حسب المنطق الإسرائيلي- لا ينحصر التهديد الذي ينطوي عليه هذا الدعم فقط في تمكين المقاومة من إيذاء الكيان الصهيوني وتهديد عمقه الداخلي؛ بل إن هذا الدعم يسمح أيضا بتواصل الفعل المقاوم، بشكل يفضي إلى الحفاظ على القضية الفلسطينية، وتقليص قدرة تل أبيب على تصفيتها.

طبعا، المستلبون لنظرية المؤامرة، الذين يصورون المواجهة الأخيرة على أساس أنها “مسرحية”، يتجاهلون حساب الدماء الذي تكرس بين إيران وإسرائيل على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمان. فلم يعد سرّا أن إسرائيل شنت منذ 2009 مئات العمليات السرية في عمق الأراضي الإيرانية، عمدت في إطارها إلى اغتيال قيادات عسكرية وعلماء ذرة، فضلا عن مهاجمة المنشآت النووية ومرافق صناعية عسكرية.. كذلك تخوض إسرائيل حربا شبه علنية ضد إيران في سورية.

من هنا، فإن رد إيران على استهداف قادتها العسكريين في دمشق، جاء في إطار حرصها على محاولة إرساء قواعد اشتباك، وفرض معادلة ردع جديدة في مواجهة الكيان الصهيوني، الذي تمادى حتى استهدف القنصلية الإيرانية في سورية؛ لكن الذين انشغلوا بالحديث عن “المسرحية” التي انطوت عليها المواجهة الإيرانية الأخيرة، نكاد لا نسمع لهم همسا إزاء استنفار دول عربية، وتجنُّدها لتأمين العمق الإسرائيلي، وتقليص تأثير الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها إيران. لقد شاهد الجميع كيف أن دولة عربية لم تكتفِ بأن سمحت للطيران الإسرائيلي والأمريكي والبريطاني والفرنسي باعتراض الصواريخ والمسيرات الإيرانية في مجالها الجوي، بل إنها كلفت أيضا سلاح جوها بأخذ دور في إنجاح هذه المهمة.

يحدث هذا في وقت تمارس فيه إسرائيل، التي هبت نظم حكم عربية لتأمينها، حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، دون أن يشكل هذا الواقع مسوغا لانشغال البعض بتسليط الأضواء على الدور الخطير الذي تنفذه هذه النظم.

وفي كل الأحوال، فإن الانقسام بين منتقد لإيران ومشجع لها في أعقاب مواجهتها الأخيرة مع إسرائيل، يشي بالفراغ الذي يحياه العرب بفعل غياب مشروع نهضوي عربي، تحركه مسوغات أخلاقية، يضمن لهم القدرة على مراكمة قدر من القوة بشكل يسمح لهم بالتأثير على مصيرهم؛ بدل أن تكتفي دولهم بأخذ أدوار وظيفية في خدمة مصالح القوى الأجنبية، دون أدنى مراعاة لتوجهات شعوبها.

قصارى القول، المثابرة الأخلاقية تفرض على المرء الإنصاف، بحيث يطرح رؤى وتصورات مركبة وأن يتجنب السرديات التبسيطية. فرفض سلوك إيران ودورها السلبي في سورية – على سبيل المثال- ليس مسوغا لاجترار تأويل رغائبي لتفسير مواجهتها مع إسرائيل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...