في بيتنا دعَّامة

بقلم: جعفر عباس

| 14 يونيو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: جعفر عباس

| 14 يونيو, 2023

في بيتنا دعَّامة

“الدعّامة” هو الاسم الذي يطلقه السودانيون على جنود قوات الدعم السريع، الذين يخوضون حربا ضد الجيش السوداني في الخرطوم وغيرها، وسأحدثكم عن دخولهم “بيتنا” في الخرطوم بحري، بعد أن أعيد سرد بعض تفاصيل تلك الحرب التي أشبعتها وغيري عرضا وشرحا.
على ذمة الطرفين المتحاربين في السودان، فإن القوات المسلحة التي يقودها عبد الفتاح البرهان ترفض وجود أكثر من جيش واحد في البلاد، بينما الطرف الثاني، وهو قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأقاربه، تتذرع بأنها تخوض الحرب في سبيل إقامة حكم مدني ديمقراطي. وفي سودان اليوم يُعتبر البرهان رأس الدولة بحكم أنه رئيس مجلس السيادة، وقد قام قبل نحو شهر بإزاحة حميدتي من منصب نائب رئيس ذلك المجلس ثم أتى بمالك عقار خلفا له، وللعقار هذا جيش خاص، وهناك عضوان آخران في المجلس السيادي هما الطاهر حجر والهادي إدريس، ولكل منهما جيشه الخاص، فإذا كان البرهان صادق النية في عدم الإبقاء على أي جيش موازٍ للجيش الوطني، فقد يعني هذا أن السودان سيكون سوح حرب قد تمتد إلى عشر سنوات!.

كسر الدعامة أبواب بيتنا في اليوم الثالث من يونيو الجاري، وكان ذلك في الذكرى الرابعة لمجزرة 3 يونيو 2019، الذي وافق 28 رمضان، وتلك المجزرة كان قد راح ضحيتها المئات عند بوابات القيادة العامة للجيش

وعلى تعدد الحركات المسلحة وجيوش “القطاع الخاص” في السودان، فإنه لم يُعرف كيانٌ باطش بالبشر والحجر والشجر كقوات الدعم السريع، ذات السجل الحافل بالدم، والتي لا نجد لها نظيرا إلا في فاغنر روسيا وشبيحة سوريا. وبعد سقوط حكومة الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وجلوسه في القصر الجمهوري خلفا له كرئيس لمجلس عسكري انتقالي ثم رئيسا لمجلس السيادة، اختار البرهان حميدتي نائبا له في المجلسين، وأطلق يده في كل الملفات؛ فصارت قوات الدعم السريع تقوم بمهام سلطات الجمارك ومكافحة المخدرات وضبط حركة المرور، وكان كل ذلك غطاء لنشاطها في تهريب الذهب الى مختلف الوجهات؛ وفي سياق ذلك النشاط، ما حلت تلك القوات بأرض إلا وأشبعت أهلها تنكيلا وتقتيلا.
كان ف. ا. حميدتي (وتحريا للدقة، فهذان الحرفان اللذان يسبقان اسمه يرمزان لـ”فريق افتراضي”، وليس رتبة فريق أول العسكرية التي يحملها بغير وجه حق).. المهم، كان الرجل وبعد سقوط حكومة البشير هو الأجهر صوتا في رفض مشاركة المدنيين في الحكم، وقتل جنوده العشرات ممن خرجوا الى الشوارع رافضين عسكرة الحكم خلال السنوات الأربع الماضية، ثم يريد اليوم إقناع الرأي العام المحلي والخارجي بأن “الوحي” أتاه، خلال الشهور الأربعة الماضية، ليصبح هو فارس التحول إلى الحكم المدني الديمقراطي؛ تماما كما أن البرهان استيقظ فجأة في منتصف إبريل المنصرم على حقيقة أن قوات الدعم السريع مليشيا متمردة، وليست ظهيرا وسندا للجيش الوطني، كما كان يردد على مدى 96 شهرا، وأن نائبه في المجلس السيادي صار من نوائب الزمان بين عشيه وضحاها.
كسر الدعامة أبواب بيتنا في اليوم الثالث من يونيو الجاري، وكان ذلك في الذكرى الرابعة لمجزرة 3 يونيو 2019، الذي وافق 28 رمضان، وتلك المجزرة كان قد راح ضحيتها المئات عند بوابات القيادة العامة للجيش، حيث كانوا يعتصمون في سياق الحراك الشعبي للمطالبة بالحكم المدني، وهناك أدلة قطعية بالفيديو على أن قوات الدعم السريع شكلت قوام المجموعة التي نفذت المجزرة في الرابعة فجرا، والمعتصمون صيام ونيام.. في ذكرى تلك المجزرة حدث اقتحام بيتنا، ولا أعرف لماذا فعلوا ذلك، فهل بلغت حميدتي قائد تلك المجموعة معلومات بأن في البيت شيء من “الديمقراطية وأصول الحكم المدني” صلاحيتها موشكة على النفاد، وأراد العثور عليها وإنعاشها وتنزيلها على الأرض، بوصفه فارس الديمقراطية وحامي حماها؟. على كل حال، لا أعرف يقينا لماذا دخلوا البيت الذي ظل مغلقا ومهجورا دهرا طويلا بسبب غياب أصحابه، ولا ما الذي عثروا عليه فيه، ولا أدري أما زال البيت محتلا أم لا، ذلك لأن جميع البيوت من حولنا تعرضت للانتهاك والاحتلال، بعد أن هجرها أهلها طلبا للسلامة، ومن ثم لا يوجد جيران يستطيعون أن يفيدونا ويفيدوا غيرنا بأحوال بيوتهم وبيوتنا، وما حاق بمحتوياتها.

ما من حكومة تواصل معها البرهان استخدمت تلك الصفة قرين اسم قوات الدعم السريع، لأن قائدها (حميدتي) كان حتى قبل شهر واحد نائب رئيس مجلس السيادة (رئاسة الدولة) بأمر البرهان، الذي منح حميدتي رتبة فريق أول

بسبب الحرب التي تدور فيه منذ منتصف إبريل الماضي، يعيش السودان حالة اللادولة، فالبرهان الذي هو رأس الدولة، غير معني إلا بأمر المواقع العسكرية التي تحتل قوات الدعم السريع بعضها وتهاجم البعض الآخر، ومن ثم تفشى الدعامة في مدن العاصمة السودانية، وما زالوا مسيطرين على معظم مفاصلها الحيوية وأحيائها السكنية، حيث يرتكبون كل جريرة وكبيرة وهم آمنون من الرصد والملاحقة، وفي هذه الظروف العصيبة يبدو البرهان أكثر حرصا على استرضاء العالم الخارجي، منه على استرضاء المواطن المكتوي بنار الحرب، فقد أوفد مندوبيه إلى مختلف العواصم لإقناع حكوماتها بإدانة قوات الدعم السريع بوصفها “متمردة” لا.
ولكن، ما من حكومة تواصل معها البرهان استخدمت تلك الصفة قرين اسم قوات الدعم السريع، لأن قائدها (حميدتي) كان حتى قبل شهر واحد نائب رئيس مجلس السيادة (رئاسة الدولة) بأمر البرهان، الذي منح حميدتي رتبة فريق أول؛ وكان عضوان في مجلس السيادة، وهما ضابطان كل منهما برتبة “فريق” المستحقة يؤديان التحية العسكرية لحميدتي، وأوكل البرهان إلى قوات حميدتي حراسة جميع المرافق المهمة في الخرطوم، وأوفد حميدتي إلى مختلف العواصم في زيارات رسمية ليوقع على الاتفاقيات الملزمة للسودان، وأسند إليه ملف التطبيع مع إسرائيل، فكان أن أوفد حميدتي شقيقه عبد الرحيم حامل رتبة “فريق” إلى تل أبيب، حيث حصل منها على أجهزة تنصت وتجسس لا نظير لها في أي مرفق مدني أو عسكري.
ينظر الرأي العام السوداني إلى قوات الدعم السريع من واقع ممارساتها منذ تشكيلها، على أنها عصابة إجرامية وبنادق مأجورة، بل إن أنصار الحكم المدني وقعوا في حرج بالغ، لأن الدعامة جعلوا المطالبة بمدنية الحكم ذريعة لخوض حرب ضد الجيش النظامي؛ وتشي مجريات المعارك في الخرطوم بأن حابل السودان سيظل يختلط بنابله دهرا طويلا، لأن مثل هذه الحروب ذات المسوغات الهلامية سرطانية الطابع، وتتفشى خلاياها في الأوصال، وقد تسرطنت بالفعل مدن غرب وجنوب دارفور، وشرعت حركة متمردة في جنوب إقليم كردفان في التمدد شمالا، ولا يملك أهل السودان سوى رفع الأكف بالدعاء “يا خفي الألطاف نَجِّنا مما نخاف”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...