في مثل هذا اليوم كنت هناك!

بواسطة | يناير 28, 2024

بواسطة | يناير 28, 2024

في مثل هذا اليوم كنت هناك!

يروي هذا المقال التفاصيل والأحداث التي تم مشاهدتها في ميدان التحرير. من انعطافات سياسية في النقابة إلى فوضى الشوارع، يتناول المقال الأيام المشحونة بالتوتر ولحظات الهروب والانتصارات.

ثورة يناير – تجربة شاهد على أحداث مصر المثيرة

غادرت نقابة الصحفيين في وقت متأخر من مساء الخميس 27 يناير 2011، وقد عقدت العزم على أن أصلي الجمعة في مسجد الاستقامة بميدان الجيزة، حيث تقرر أن يكون واحدا من المساجد التي ستخرج منها المظاهرات إلى ميدان التحرير، وتم الإعلان عن أن البرادعي سيصلي فيه!

كان بعض الزملاء الصحفيين، ومعهم بعض النشطاء، قد قرروا المبيت في النقابة، ليكونوا على مقربة من الميدان في حال أغلقت أجهزة الأمن منطقة وسط البلد، وكان وزير الداخلية حبيب العادلي قد طلب من وزير الأوقاف إلغاء صلاة الجمعة في هذا اليوم، وقد تقرر أن تخرج المظاهرات عقب الصلاة من مساجد بعينها، مثل مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، ومسجد الفتح بميدان رمسيس، وهو بجانب مسجد الاستقامة، وعدد من المساجد الأخرى. وصلاة الجمعة هي مناسبة تجمُّع، تُمكّن من يريد الخروج أن يجد حمايته في وجود الآخرين!

دولة العائلة:

في اجتماع لمجلس الوزراء، رفض وزير الأوقاف حمدي زقزوق مقترحَ وزير الداخلية، وكانت هذه من إشارات التمرد على العادلي، وهو -على تفاهته- أقوى وزير داخلية في عهد مبارك، لأنه حاز ثقة الرئيس ونجله وأفراد أسرته، وهو إجماع لم يحصل عليه أحد في مجلس الوزراء سوى فاروق حسني وزير الثقافة، وهو بعيد عن الأحداث، ووزير الإعلام أنس الفقي، وهذا قرر أن يكون في قلبها!

كان بعض الوزراء يُحسبون على “الهانم” حرم الرئيس، وبعضهم من رجال نجله، ومع تقدمه في العمر فقد الأب نفوذه وسيطرت العائلة (الابن والزوجة) على الحكم، وبدأ هو يخسر بعض رجاله، وكان من بينهم صفوت الشريف، وزير الإعلام، حيث استغل جمال مبارك غياب والده للعلاج في ألمانيا، ليأتي القرار في أول اجتماع للهيئة البرلمانية للحزب الوطني بمجلس الشورى بتعيين صفوت الشريف رئيساً للمجلس، فرفض الوزير الانصياع، لكن بإعلان القرار لم يكن التراجع عنه ممكنا، فطلب منه مبارك الأب القبول، مقابل الاستجابة لمطلب له، هو ألّا تقع تبعية الوزارة في المرحلة الانتقالية لسلطة وزير السياحة ممدوح البلتاجي!

وكان له ما أراد، وكُلف فاروق حسني بإدارة الوزارة لحين اختيار وزير لها، لكن جمال مبارك رداً على ذلك رشح لها (من باب المكايدة) ممدوح البلتاجي، وكان بين الشريف والبلتاجي ودٌّ مفقود، لأن الأخير كان لديه طموح لم يكن يخفيه إلى منصب وزير الإعلام. وذات مرة سرَّب له صفوت الشريف صورة له في الخارج وهو في ملهى ليلي، ليوقف نموه السياسي، فاستمر وزيراً للسياحة وفقد الأمل في أن يصير وزيراً للإعلام، وردد صفوت الشريف إنه آخر وزير إعلام لمصر، (والكلام لكِ يا جارة)!

وكان صفوت الشريف “عُقراً”، فقرر الانتقام من القرار بطريقته، بأن أفشل البلتاجي عن طريق رجاله في مبنى (ماسبيرو)، وصحيح أن الرجلين سبق لهما العمل في جهاز المخابرات، لكن الوزير الجديد لم يكن على مستوى ذكاء ومكر صفوت الشريف، فكان في كل يوم مشغولاً باستقبال آلاف الشكاوى ممن يدّعون تعرضهم للاضطهاد الإداري في المرحلة السابقة، وقد قدم نفسه باعتباره ناصر الضعفاء، فكان يعود كل يوم إلى منزله محملاً بهذه الشكاوى لبحثها، ولم ينشغل بشيء آخر؛ فغرق في بحر المظالم وانتهى أمره، ليتم جلب أنس الفقي من وزارة الشباب والرياضة، فيُعيّن وزيراً للإعلام، ويعيّن البلتاجي وزيرا للشباب، في حركة تنقلات محدودة!

أزمة في النقابة:

بينما كنت أستعد للنزول لصلاة الجمعة في مسجد الاستقامة، تلقيت اتصالاً هاتفياً من زميلي محمد منير، وكان ممن قرروا “المبيت” في المبنى، كان غاضباً لأن سكرتير عام النقابة (حاتم زكريا)، أصدر قراره لمدير أمن النقابة، بإخراج كل من ليس عضواً في النقابة. وعليه، أخبرته أنني في الطريق إليه لمواجهة هذا القرار.

عندما وصلت إلى النقابة كانت مغلقة، وكانت نقابة المحامين كذلك، وكانت الحكومة قد أوقفت الاتصالات، فصار هاتفي النقال جثة هامدة ولم أعرف أين ذهبوا، وقد علمت بعد ذلك أنهم اتخذوا قرارهم بالذهاب للصلاة في مسجد مصطفى محمود!

كانت الأجواء متوترة للغاية، فلا أحد في الشارع سوى رجال الشرطة المتواجدين بكثافة، وكان مع كل فرقة أعداد كبيرة من البلطجية!

على مقربة من النقابة كانت هناك زاوية في حارة جانبية، يصلون فيها الجمعة، خرجت من الصلاة فوجدت عدداً من الزملاء بجريدة الأسبوع، ومقرها على مقربة من المكان، وتذكرت أنني لم أتناول طعاماً وأن اليوم قد يكون طويلاً، فاشتريت سندوتشات من مطعم فول، وأكلتها واقفاً، فهذا يوم تسقط فيه القواعد، وجاء زميلنا عادل صبري، رئيس تحرير الموقع الإلكتروني لجريدة “الوفد”، وكان معه أحد الشباب المتدربين بالموقع!

بعد قليل جاء أيمن نور ونجله، ومعهما إيهاب الخولي القيادي بحزب الغد. قال نور إنه صلى الجمعة في مسجد الفتح، وإنه بدا له أن كل المصلين الذين احتلوا المسجد هم من رجال الأمن، فشعرت باليأس يتسرب إلى قلبي؛ سألني الخولي: “معقولة الموضوع انتهى هكذا؟!” ومع أني كنت ميالاً لذلك، فقد قلت له: لا يزال الوقت مبكراً، ومعظم المساجد لم تنته من الصلاة بعد.. الحقيقة، كنت أطمئن نفسي قبل أن أطمئنه!

واقترح أيمن نور أن نستقل سيارات أجرة ونطوف شوارع وسط البلد، وعند أول مظاهرة نلتحم بها، ورفض عادل صبري الفكرة، واستقل نور ونجله وإيهاب الخولي سيارة أجرة، بينما انطلقنا، أنا وعادل صبري والزميل المتدرب، إلى شارع 26 يوليو، وكان علينا أن نقطع شارع عبد الخالق ثروت، حيث مبنى النقابة!

نظر عادل صبري يساراً، فظن أحد الضباط – ومعه كوكبة من الجنود والبلطجية- أنه ينظر إليهم، فطلب منا الانصراف وعدم النظر حولنا! وقال عادل صبري “إني أنظر لنقابتي، فما شأنك أنت؟!”، فردّ الضابط إن هذا عمله!، وعلق عادل بالقول إنه أيضاً يمارس عمله!. كانت الأجواء متوترة، وأقنعت عادل صبري بألا نشغل أنفسنا بهذه الأمور الجانبية، وسرنا ولا شيء يوحي بأنه يوم مختلف، إلا هذا الوجود المبالغ فيه لرجال الشرطة والبلطجية!

الشعب يريد:

عندما وصلنا إلى تقاطع عماد الدين، وجدنا صبية قادمين من ميدان رمسيس يجرون وهم يهتفون: “الشعب يريد إسقاط النظام”، هتاف الثورة التونسية، وهو الذي اعتُمد هتافاً للثورة المصرية في يومها الأول (25 يناير). وفي مثل هذا اليوم (28 يناير) نشرت لي “القدس العربي” مقالي الأسبوعي، وعنوانه “عندما هتف المصريون: الشعب يريد إسقاط النظام”.

انعطفنا يمينا، وما إن وصلنا إلى تقاطع قصر النيل (ميدان محمد فريد)، حتى كنا أمام مظاهرة عارمة، وقد تبين لي أن الذين كانوا يتصرفون وكأنهم مواطنون عاديون، فينظرون في البضاعة المعروضة للمحلات، كانوا ينتظرون الفرصة مثلنا!. قضينا يوماً كاملاً في الكر والفر، وكنا كلما اقتربنا من ميدان التحرير قصفتنا الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، من أمامنا ومن فوقنا، حيث احتل عناصرها أعلى البنايات، وزاغت الأبصار!

مررت بتجربة الموت اختناقاً أكثر من مرة في هذا اليوم، وبينما كنت ألتقط أنفاسي بصعوبة مع الدموع التي سالت بغزارة من تأثير دخان القنابل، قلت لمرافقي جمال أبو عليوة الصحفي بالكرامة، وقد أغراني طول قامته: “إذا وقعت شيلني يا جمال”، لكن جمال الذي كان في حالة مزرية أيضاً قال: “استندت على حيطة مايلة ياريس!”.. في هذه اللحظة فلتت مني ضحكة لقوله، ولا أعرف حقيقة لماذا كان يشغلني جثماني الطاهر في هذه اللحظة؟!

وجدنا مقهى صغيرا فدخلناه، أنا وجمال، ففي الزحام ضاع مني عادل صبري وضعت منه، وبدخولنا تم إغلاق الباب، حتى لا يدخل المزيد من المتظاهرين! كان في المقهى رجل صعيدي وقور، يرتدي جلباب أهل الصعيد المعروف ويضع عمامة ملفوفة بإتقان، وبهيئته يبدو كبيراً في قومه. طلب من النادل أن يأتي بكل طلباتنا على حسابه!

من غرائب هذا اليوم، أنه سيطر عليَّ الاهتمام بألا نتركه يحاسب بالنيابة عنا، لا أعرف لماذا.. ربما لأننا كنا في وضع يثير الشفقة لحالنا، ولا أريد أن نبدو كذلك! ولأننا كنا في حالة إعياء، لا تسمح لنا بالدخول في جدل لوقف قراره بأن تكون كل طلباتنا على حسابه، قلت لجمال لا تتركه يحاسب، بينما انشغل جمال بالتعرف عليه، لنكتشف أنه “بلدياتنا من طهطا”، وفي الآخر دفع هو الحساب، فمن يقمع رغبة صعيدي إذا قرر أمراً كهذا؟!

هروب الجنود:

بعد استراحة قصيرة، عدنا مرة أخرى للكر والفر، تفشل المحاولات لدخول ميدان التحرير من باب اللوق فنعيد المحاولة من شارع صبري أبو علم، المؤدي إلى ميدان طلعت حرب، على مقربة من ميدان التحرير!

كنا نفترش الرصيف من التعب والإنهاك، ثم نهبّ للمحاولة مرة أخرى، إلى أن تفتق ذهن أحد الشباب عن حيلة بأن أمسك صندوق القمامة الضخم، واندفع به في اتجاه رجال الشرطة الذين يصطفون لقطع الطريق على من يريدون دخول ميدان طلعت حرب، ومع أن الصندوق بإطارات فقد دفعه بقوة، حتى لا يمكن لأحد إيقافه، فإن أوقفه في هذه الحالة فسوف يعود إليه فينهي حياته، وكان يخبئ رأسه وجسمه خلفه، فيضمن ألا يتمكن منه رصاص الشرطة. وتبعه آخر بالطريقة نفسها، فلما وصل إلى هناك هرب الجنود، ودخلنا ميدان طلعت حرب منهكين، وذهبنا نبحث عن شيء نبل به ريقنا، وافترشنا الأرض، ولم نبالِ بهتاف زميلنا أبو المعاطي السندوبي القادم من ميدان التحرير، وهو يبشرنا بأن الميدان صار ملكنا!

وعلمنا أن الذين جاؤوا من شارع رمسيس، ومن كوبري قصر النيل، ومن شارع القصر العيني، كانوا بأعداد كبيرة للغاية نجحت بعد يوم عاصف في إنهاك الشرطة والدخول إلى الميدان.

كانت أيامًا!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...