في نقد مقولات “الاستبداد الشرقي”

بواسطة | أغسطس 10, 2023

بواسطة | أغسطس 10, 2023

في نقد مقولات “الاستبداد الشرقي”

قبل فترة جمعني لقاء بأحد الباحثين الغربيين المتخصصين في حقل الانتقال الديمقراطي، وذلك على هامش أحد المؤتمرات العلمية بالعاصمة الأمريكية واشنطن، ودار بيننا حديث حول أسباب فشل الثورات العربية، وعدم قدرة البلدان العربية على تحقيق انتقال ديمقراطي ناجع، على غرار ما حدث في مناطق جغرافية أخرى، مثل أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإفريقيا؛ وبعد جدل حول طبيعة العوامل البنيوية التي تساهم في ترسخ الاستبداد في المنطقة العربية، كالقمع والفقر والجهل والدعم الغربي للأنظمة السلطوية، انبرى ذلك الباحث للقول إن الاستبداد هو شيء متجذر وأصيل في الثقافة العربية، وبالتالي من الصعب تغييره أو الإفلات منه؛ وبعد أن نال صاحبنا ما يستحق من النقد والتعليق على ملاحظته الاستشراقية الواضحة، والتي تستطبن بداخلها مقولة “الاستبداد الشرقي” التي يتم ترديدها كثيرا حول حتمية وقوع الشعوب العربية تحت الاستبداد، والتي تميل للاستسهال في تفسير قضية معقدة كالاستبداد؛ عدت للتفكير في مقولة صاحبنا وما إذا كانت صحيحة أم لا.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أُعدُّ إحدى محاضراتي حول جذور الاستبداد وآليات إنتاجه، وكان لافتا أن مقولة “الاستبداد الشرقي” تعود بجذورها لأحد أهم فلاسفة السياسية منذ فجر التاريخ، وهو “أرسطو” الذي يرى أن الاستبداد كامن في الشرق بسبب أن الشعوب الآسيوية، التي يسميها بالبرابرة، تميل بطبيعتها إلى الاستبداد لأن أبناءها “عبيد بالطبيعة” حسب قوله؛ وفي هذا الصدد يقول أرسطو: “البرابرة أكثر خنوعا بطبيعتهم من الإغريق، والآسيويون أكثر خنوعا من الأوربيين، ومن هنا فإنهم يحتملون الحكم الاستبدادي دونما احتجاج… هذه الملكيات شبيهة بالطغيان إلا أن أوضاعها مستقرة لأنها وراثية وشرعية”.
الفكرة ذاتها ما برحت تتكرر وتنتقل من جيل فلسفي إلى آخر، بل وعلى ألسنة من يعتبرهم البعض أهم منظرّي الديمقراطية في الغرب، مثل المفكر الفرنسي مونتسكيو (١٦٨٩-١٧٥٥) صاحب ومؤسس نظرية “الفصل بين السلطات”، الذي يرى أن “الاستبداد الشرقي” قدر يصعب الفكاك منه، حيث يستند الحاكم المستبد إلى الدين لتبرير حكمه، وهو بالنسبة إليه “حكم الجهل، جهل المستبد ذاته، وجهل رعيته، ومن هنا يكون الغياب التام لكل فضيلة”، كما أنه يرى أن أمراء الشرق قد “انغمسوا انغماسا شديدا على الدوام في الميوعة والشهوة”.
ثم إن الفكرة نفسها انتقلت أيضا من أرسطو إلى هيجل (١٧٧٠-١٨٣١)، صاحب المنطق الجدلي الذي يقدّس العقل، والذي يرى أن الحكم الاستبدادي هو نظام الحكم الطبيعي للشرق الذي يقوم على أساس أبوي بطرياركي، حيث إن النظام الشرقي -كما يراه- يقوم على مبدأ شخص واحد حر هو الحاكم الذي يمارس حكمه “على طريقة الأب مع أبنائه، وأن له حقوقا لا يجوز معارضتها لأنه أب للجميع، وطاعته واجب حتمي”؛ ووفقا لهيجل، فإن الشعب الشرقي “ليس لديه عن نفسه إلا أسوأ المشاعر، فهو لم يُخلق إلا ليجرّ عربة الإمبراطور، وهذا قدره المحتوم؛ وعاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم اليومي، كل ذلك يدل على مبلغ ضآلة الاحترام الذي يكنونه لأنفهسم كبشر”… هكذا يرى هيجل، أبو الفلسفة المادية العقلية، الشرق وأهله؛ وهي الفكرة التي تبناها أيضا كارل ماركس ضمن ما أطلق عليه “نمط الإنتاج الآسيوي”. وقد نجح الباحث زهيد فريد مبارك في تتبع أصول فكرة الاستبداد الشرقي في كتابه المهم “أصول الاستبداد العربي”، مبينا جذور الفكرة وتطورها منذ أرسطو وحتى يومنا هذا.
وبالعودة إلى صاحبنا، فلا يمكن إنكار أن المنطقة العربية تظل آخر مناطق العالم انتقالا إلى الديمقراطية، ولكن المسألة لا تتعلق بعدم رغبة العرب في التحرر من الاستبداد، أو بميل (طبيعي) بداخلهم للاستبداد، أو بأن ثقافتهم ودينهم وعاداتهم تفضل الاستبداد على الحرية؛ فما شهدناه، ولا نزال، من انتفاضات وثورات واحتجاجات تطالب بالحرية والانعتاق من الاستبداد في أكثر من نصف البلدان العربية طيلة العقد الماضي، يؤكد أن ثمة توقا حقيقيا للحرية، وأن الرغبة في إنهاء الاستبداد قائمة، وكلما ظن البعض خطأً، مثل صاحبنا، أن الثورات والانتفاضات العربية قد انتهت، خاصة بعد الذي حدث في مصر وسوريا واليمن وليبيا، فوجئوا باحتجاجات وانتفاضات جديدة في بقع أخرى من العالم العربي، مثلما حدث بعد ذلك في السودان والجزائر ولبنان والعراق فيما أسماه البعض الموجة الثانية للربيع العربي؛ في حين يتجاهل صاحبنا، ومن على شاكلته، دعم بلاده المتواصل للأنظمة السلطوية، والذي يبدو كفيلا بإجهاض كل محاولات التحرر من الاستبداد.
خذ مثلا حالات مصر وسوريا والجزائر، وهي البلدان الثلاثة التي شهدت ثورات وانتفاضات في مراحل مختلفة خلال العقود الثلاثة الماضية، لكن انتفاضاتها تم إجهاضها والانقلاب عليها من خلال تحالف سياسي بين الأنظمة السلطوية والغرب؛ ففي سوريا ما كان لبشار الأسد أن يبقى في السلطة حتى يومنا هذا لولا الدعم العسكري الروسي للنظام هناك؛ وكذلك الأمر في الجزائر، فلولا تحالف فرنسا مع العسكر أوائل التسعينات، وتشجيع انقلابهم على نتائج الانتخابات التشريعية عام ١٩٩١، لما دخلت الجزائر في حرب أهلية دامية راح ضحيتها الملايين.
قطعا، لا يعني هذا لوم الغرب وحده على مأساة الاستبداد في بلداننا، وإنما يعني بالأساس أن مقولات “الاستبداد الشرقي”، التي يتبناها صاحبنا الغربي وغيره من المثقفين والباحثين، ليست سوى هروب من الحقيقة، وتبرير ساذج لدعم حكوماتهم المستمر للاستبداد في كافة أنحاء العالم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب

كنتُ أهاتف الشيخ عبد الوهاب الطريري ونتحدث عن الكتب وشؤون المطابع وقصص من حياة المؤلفين.. والنقاش مع الشيخ الطريري ممتع ومفيد ومليء بالفوائد، فهو يتذوق القصة الجميلة، ويطرب للعبارة الحلوة، ويتأمل في حياة المؤلفين والكُتَّاب، وكمْ حدَّثني عن مقالات الزيَّات وعصر مجلة...

قراءة المزيد
عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
Loading...