قبسات من سيرة أمين سرّ رسول الله ﷺ

بواسطة | أكتوبر 6, 2023

بواسطة | أكتوبر 6, 2023

قبسات من سيرة أمين سرّ رسول الله ﷺ

كان حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه)، صحابيا جليلا من صحب النبي ﷺ النجباء، والذين سبقوا إلى الإسلام، وضحّوا بأنفسهم في سبيل إعلاء كلمة راية الحق والتوحيد؛ صحب رسول الله ﷺ في مشاهِده الكبرى، فحاز منزلة عُظمى، وكان عند الصحابة الكرام صاحب سرّ رسول الله ﷺ، وعالِما بأحداث الفتن ومواقع الشر، كما أنه فضّل نُصرة النبي (ﷺ) على الهجرة، وحاز منزلة رفيعة في عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فجعله واليا على المدائن في فارس بعد الفتح الإسلامي، وبقي فيها إلى أن وافاه الأجل (رضي الله عنه وأرضاه). وإنّنا إذ نكتب في سِيَر هؤلاء الصحب الأبرار؛ فإننا نقتبس من سِيرهم أنوارا، ومن قصصهم مشاعل هدى، فهم الجيل المفضل بتفضيل القرآن الكريم لهم، قال الله تعالى: {والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والَّذين اتَّبعوهم بإحسانٍ رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه وأَعدَّ لهم جنَّاتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100].
1- حذيفة بن اليمان: اسمه ونسبه وإسلامه
هو حذيفة بن اليمان، وأبوه اليمان هو حُسَيل بن جابر بن أسيد، هو حليف الأنصار، وصاحب سرّ رسول الله صلى اللَّهُ عليه وسلم، وأحد المهاجرين، وكان أبوه قد أصاب دَمًا في قومه، فهاجر إلى يثرب (المدينة المنورة)، وحالف بني عبد الأشهل، فسمّاه قومه اليمان لحِلْفه لليَمانية (تاريخ الإسلام، 3/ 493).
 أسلم حذيفة (رضي الله عنه) في بداية دعوة الإسلام، وشهد أُحدا وما بعدها، وكان له مكانة رفيعة عند رسول الله ﷺ، فخصَّه بِذكر أسماء بعض المنافقين، واشتُهر بمعرفته أحاديث الفتن، وقد قال: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وحذيفة أحد أصحاب النبي ﷺ الأربعة عشر النجباء، وكان النبي ﷺ أسرّ إليه أسماء المنافقين، وحفظ عنه الفتن التي تكون بين يدي الساعة، وناشده عمر بالله: (أنا من المنافقين؟) فقال: اللهم لا، ولا أزكي أحدا بعدك. (تاريخ الإسلام، 3/ 494). ولقد ولّاه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في خلافته على ولاية المدائن، فأقام بها إلى أن توفي سنة ست وثلاثين للهجرة (رحمه الله ورضي عنه). (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 5/ 105).
2- فضائله (رضي الله عنه)
أ. جهاد حذيفة مع رسول الله ﷺ:
شهد حذيفة رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ أُحداً وما بعدها، ولم يستطع أن يشارك في غزوة بدر، وقد ذكر لنا قصة ذلك عن نفسه، فقال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل، ‌فأخذَنا ‌كفار ‌قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا علينا عهد الله لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فقال: “فُوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم” (تاريخ الإسلام – ت تدمري، 3/ 494).
هذه صورة مشرقة في حرص النبي ﷺ لحفظ العهود، وتربية أصحابه على تطبيق مكارم الأخلاق الرفيعة، وإن كان ذلك فيه إجحاف بالمسلمين، ومفوِّتٌ لهم جُهْدَ بعض أفراد المجاهدين. (السيرة النبوية، الصلابي، ص 733)
– غزوة أحد: شهد حذيفة (رضي الله عنه) مع أبيه حُسيل أُحداً وأبلى فيها بلاء حسنا، واستشهد والده فيها، حيث قُتل خطأ. (الاستيعاب في فضل الأصحاب، ص 137) وجاء خبر ذلك عن ‌عائشة رضي الله عنها، قالت: “لما كان يوم أحد هُزم المشركون ‌فصاح ‌إبليس: أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي، فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال عروة: فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحق بالله”.
– غزوة الأحزاب: شهد حذيفة (رضي الله عنه) الأحزاب، وكان له موقف مميز فيها، حيث استنهض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه ليأتوا له بخبر القوم، فاستعمل(ﷺ) أسلوب الترغيب، وكرَّره ثلاث مرات، وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم، والحزم في الأمر، فعيَّن واحدا بنفسه، فقال: «قم يا حذيفة! فائتنا بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ» [مسلم (1788)]. وقد فعل حذيفة ما أمره به رسول الله ﷺ على أتم وجه، وأكمل صورة. (السيرة النبوية، الصلابي، ص 977)
– كما شهد (رضي الله عنه) مشاهد الإسلام الكبرى مع رسول الله ﷺ كغزوة تبوك وغيرها، والمشاهد الكبرى والفتوح في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كفتوحات الشام والعراق، وفارس.
ب- صاحب سرّ رسول الله (ﷺ)
كان من مناقب حذيفة (رضي الله عنه) العظيمة أنْ خصَّه رسول الله ﷺ بأسماء المنافقين دون غيره من أصحابه (ﷺ)، حتى عُرف بين أصحابه بــ “صاحب السرّ”، (سير أعلام النبلاء، 2/ 361).
 عن قيس قال: قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة. ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “‌في ‌أصحابي ‌اثنا ‌عشر ‌منافقا، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط”. (صحيح مسلم (4/ 2143 ت عبد الباقي) ومرّ أنّ عمر (رضي الله عنه) أقسم عليه أن يخبره، أَكتَبَه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين.
ج- عِلم حذيفة بن اليمان بأمر الفِتن واهتمامه بها
ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده، وإنما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى؛ وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين. (حذيفة بن اليمان صديق الوضوح وعدو النفاق، خالد محمد خالد، 2011) وقد أوتي رضي الله عنه شهرة في هذه القضايا، حتى قيل حذيفة مختص بأحاديث الفتن وأحوالها، ومن أشهر الآثار التي وردت عنه في ذلك، ما جاء في الصحيحين: ‌قال حذيفة بن اليمان: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير. قال: نعم، وفيه ‌دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا! فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين. (صحيح البخاري، 4/ 199 ط السلطانية)
هـ- ولاية حذيفة بن اليمان على المدائن في فارس
شهد حذيفة (رضي الله عنه) الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، فحين خرجت الجيوش الإسلامية خارج الجزيرة العربية كان حذيفة (رضي الله عنه) ضمن الجيوش المتجهة إلى العراق. ولما وجه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الجيوش من الكوفة والبصرة إلى نهاوند، عيّن النعمان بن مقرن أميرا على تلك الجيوش، وحذيفة خليفته في القيادة. وحين قتل النعمان في هذه المعركة، قاد حذيفة (رضي الله عنه) الجيوش الإسلامية، ففتح نهاوند، ثم غزا ماسبذان، فافتتحها، ثم غزا همذان، فافتتحها، وإليها انتهى فتح حذيفة رضي الله عنه. (تاريخ الإسلام، 2/132).
3- وفاة حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه)
ذكر أهل التأريخ والسير أن وفاته كانت بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأشهر يسيرة، سنة خمس وثلاثين للهجرة. فلما شعر حذيفة رضي الله عنه بأن الموت يقترب كان جاذعا ومستمرا في البكاء، وعندما سألوه عن سبب بكائه، كان يقول ما أبكي أسفا على الدنيا بل الموت أحب إليَّ، ولكني لا أدري على ما أُقدم، على رضا أم على سخط.
قال زياد مولى ابن عياش: حدثني من دخل على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال: لولا أني أرى أن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة لم أتكلم به. اللهم إنك تعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى، وأحب الذلة على العز، وأحب الموت على الحياة ، ثم مات رحمه الله. وجاءه أصحابه وهو بالمدائن فدخلوا عليه في جوف الليل فقال لهم: أي ساعة هذه؟ قالوا: جوف الليل أو آخر الليل. فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار. ثم قال: أجئتم معكم بأكفان. قالوا: نعم، قال: فلا تغالوا بأكفاني، فإنه إن يكن لصاحبكم عند الله خير، فإنه يبدل بكسوته كسوة خيرا منها، وإلا يسلب سلبا. وقال شعبة: أخبرنا عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: قلت لأبي مسعود الأنصاري: ماذا قال حذيفة عند موته؟ قال: لما كان عند السحر، قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار – ثلاثا – ثم قال: اشتروا لي ثوبين أبيضين؛ فإنهما لن يُتركا عليَّ إلا قليلا حتى أبدل بهما خيرا منهما، أو أسلبهما سَلْبا قبيحا.
وهكذا انطوت بوفاته صفحة من صفحات البطولة والشجاعة التي خلدت لنا مآثر الأجداد العظماء، الذين كانوا رموزا للخير والعطاء والتضحية في سبيل الله، ومثلا صادقا للشموخ والاعتزاز بدين الله على مر العصور. (الصحابي حذيفة بن اليمان سيرته ودوره في الفتوحات الإسلامية، ص 12)

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...