قيس سعيد.. هل وضع الله سره في أضعف خلقه؟!

بواسطة | فبراير 25, 2024

بواسطة | فبراير 25, 2024

قيس سعيد.. هل وضع الله سره في أضعف خلقه؟!

تتناول المقالة الوضع السياسي في تونس، حيث يظهر الرئيس قيس سعيد بضعفه السياسي، وتأثير ذلك على مشهد الانتخابات والمنافسة السياسية، مع تسليط الضوء على دور حركة النهضة وتحليل تفاعل الشعب مع الأحداث.

السياسة في تونس – بين تحديات السلطة وهيبة الرموز

بالحكم الذي صدر بسجن المنصف المرزوقي، رئيس تونس الأسبق، ومن قبله اعتقال الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، بدا الرئيس قيس سعيد كما لو كان يتسلى بخصومه؛ حيث يضرب ضربته وينتظر رد الفعل، فلا يجد ما يدفع للخوف، فيضرب ضربته التالية، وهكذا!

قوة الرئيس التونسي في ضعفه، وهذا الضعف هو الذي أغرى النهضة بأن تنظر إليه في جولة الإعادة – وربما قبلها- على أنه خيارها، فهو يبدو بهذا الضعف مقطوعاً من شجرة، فلا حزب خلفه، ولا طائفة تراه الأمل والمنى، ولا دولة عميقة تسنده، ولا جيش يفرضه بقوة السلاح، و”زفة الانتخابات” تنتهي بانتهائها!

أسخر من نفسي إذ أذكر أننا سهرنا الليل كله في ترقب نتيجة الانتخابات، حتى بدا كما لو كان مرشحنا للرئاسة المصرية، وقد خسر المصريون مرشحهم الأصلي؛ المرزوقي، فكان قيس سعيد هو البديل.. ولم لا والرجل يتحدث بالنحوي، اعتزازاً بعروبته؟ وقد رآه كثيرون من الشباب مرشح الثورة في مواجهة منافس متهم بالفساد، وهؤلاء الشباب هم الذين مكنوه من أن يصل للإعادة!

الدعاية الغريبة:

الذي يخفف من “جُرعة” الإحساس بخيبة الأمل، أننا لم نكن نعرف شيئاً عن المذكور، وأننا وقعنا أسرى لدعاية من وثقنا فيهم، فلم يقولوا لنا شيئاً عن أصله وفصله، بل تم اختراع أدوار معارضة له في عهد النظام السابق، ليتبين أنها كانت من خيال الشعراء؛ وهناك لون من الدعاية يحتاج إلى إخضاعه للتحليل الاجتماعي، ومن حسن الحظ أن الأخوة في حركة النهضة مؤهلون لذلك، بحكم أنهم في معظمهم من دارسي العلوم الإنسانية، وليسوا – كما الأشقاء في مصر- خريجي كليات القمة؛ الطب والهندسة!

عندما خُضت الانتخابات البرلمانية، في سنة 2005، وسقطت بالإرادة الحرة للناخبين، راعني أن أستاذاً جامعياً ترشح كثيراً ولم يحالفه الحظ، ومع ذلك لم ييأس، على العكس مني؛ فقد خرجت من هذه التجربة الأليمة إلى ضرورة عدم الاحتكام للجماهير مرة أخرى، وأنا صاحب تجارب فاشلة في هذا المسار، بدأت بسقوطي في انتخابات “ألفة الفصل”، فاستلمت اختصاص الألفة بسوء استخدام إدارة المدرسة للسلطة!

في هذه الانتخابات كانت هناك دعاية لهذا الأستاذ الجامعي، جعلت منه أسطورة، وحلما للشباب الذي تولى الدعاية، وسمعت قصصاً وأساطير عن أدوار قام بها وخدمات أنجزها، وكان عليَّ أن أتحرى صدق ذلك، فانتهزت رواية أحد المؤيدين له، وفيها أنه سافر إليه حيث مقر عمله بجامعة في محافظة أخرى، طلباً لوساطته في إسكان ابنه في المدينة الجامعية بجامعة سوهاج، فأصر أن يصطحبه معه في سيارته في سفر لأكثر من ساعتين، ولم يتركه إلا وقد أنجز المهمة على خير وجه.. وعندما اختليت بنجله الطالب، وسألت عن صحة الواقعة دون نسبتها لأبيه، هالني ما قاله! ليس لنفيه لها، بل لأنه لا يسكن في المدينة الجامعية أصلاً!

وهذا اللون من الدعاية، صاحَبَ شخص قيس سعيد، فارس الثورة الأصيل، فرأى فيه المصريون عوضاً عن سقوط المنصف المرزوقي، وهو الذي دفع أحد المعلقين للقول إنه يبدو أن المرزوقي كان مرشحاً للمصريين فقط، فالنهضة كان لها مرشحها الشيخ عبد الفتاح مورو، لكنها لم تقف معه كما ينبغي، إذ بدا أن مجاراته في الرغبة للترشح للرئاسة مستندة لأوهام لا صلة لها بالواقع، من أن الثورة بعد عشر سنوات قد استودت على الجودي، كما لو كانت خطة للتخلص منه، ليفسح المجال للغنوشي لرئاسة البرلمان، والأحق بها هو عبد الفتاح مورو، وفق قواعد الترقي الوظيفي، وقد كان وكيلاً للمجلس!

فلما رأى القوم الساحة وقد خلت إلا من اثنين، أحدهما متهم بالفساد والآخر مقطوع من شجرة، اعتقدوا أنهم يستطيعون ركوب الثاني، ولم يستلهموا دروس التاريخ؛ فالضعيف هو الخطر بشحمه ولحمه، والقوي هو مجرد إنسان متعِب في الرخاء، لكن يُستند عليه في الشدة!

وفي التجربة المصرية، اختار عبد الناصر الأضعف من الضباط الأحرار ليكون نائباً له، والذي اختار بدوره صاحب الشخصية الأضعف في غرفة عمليات حرب أكتوبر ليكون النائب.. نماذج “تتمسكن حتى تتمكن”، فإذا تمكنت فُتحت شهيتها للانتقام من مرحلة كان يُنظر إليها فيها بازدراء؛ فمشى السادات على طريق عبد الناصر بأستيكة، وهمش مبارك أسرة السادات تماماً، وأحال شقيقاً له وأنجاله للمدعي العام الاشتراكي، والكسب غير المشروع، ومحكمة القيم!

ما الحاجة للمجانين؟

وفي تجربة الرئيس محمد مرسي حصل مثل ذلك، ومع بالغ احترامي لشخص الدكتور هشام قنديل، فإنه لم يكن هو الرجل المناسب، لكنه كان مريحاً.

وعندما جيء بنائب عام من خارج انتفاضة القضاة، قلنا ليتهم جاءوا بالمستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاة السابق، لأنه في الأخير له شعبية داخل الوسط القضائي، ولن يحتاج إلى تنظيم يسنده بالتظاهر أمام دار القضاء العالي، ثم إنه ليس محسوباً على الجماعة، لكنهم قالوا إنه مجنون!

هذه الصفة أطلقت أيضا على المنصف المرزوقي، ولا يقصد بها على كل حال ما ينتجه الخلل النفسي، فهو اتهام يُطلق على أي إنسان سريع الغضب.. ووقع الاختيار على قيس سعيد، هذا الضعيف المقطوع من شجرة، وهو اختيار مرده إلى الشعور بالاستقرار، وكأن السلطة انتقلت بسلاسة من النظام السابق – سواء في مصر أو تونس- إلى القوم، فما حاجتهم للمجانين؟!

لا أقول إن مجنون تونس لو فاز فلن يسلمهم ولن يتآمر عليهم، فهذا مفروغ منه، ولكني أقول إنه في حال فوز نبيل القروي لم يكن الرجل ليفعل هذا، لكن قيس سعيد أمره مختلف، وهو الماء من تحت تبن!

لم يكن نجاح قيس سعيد أمر حتمي لا سبيل لإبعاده، وهو الحاصل في الجولة الأولى على 18.4 في المئة من أصوات الناخبين، في حين حصل القروي على 15.6 من الأصوات، والمعنى أن الأغلبية التي تمثلها حركة النهضة هي التي حسمت الأمر، وأثرت في النتيجة، وليس لدى القوم حساسيتنا في مصر، وقد رفضنا أن يستمر الفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، لأن من عينه هو مبارك، لينفرد المجلس العسكري بالسلطة، وكأن المشير طنطاوي وأعضاء المجلس العسكري جاءوا بإرادة الناخبين داخل الجيش، وليسوا اختيار مبارك الذي صنعهم على عينه!

فالقوم لم يجدوا غضاضة في أن يستدعوا من المقابر القايد السبسي ليكون رئيساً للجمهورية، وهو أحد مخلفات عهد ما قبل ثورة الياسمين، ولو استمروا على هذا النحو، لوجدوا من يبرر لهم، ففساد القروي على نفسه، ثم إنه مجرد متهم لم يُدَن بحكم قضائي بعد.

ما علينا.. فما الذي جعل الخيار ضيقاً حرجاً؟ ماذا لو تم إقناع عبد الفتاح مورو بأن يُعرِض عمّا في رأسه؟ وكم كان جيداً لو دفعه ذلك لاعتزال السياسة كما اعتزلها بعد ذلك؟ والرجل مندفع للمناصب العليا بعد حرمان، وليس بتحريض من إدمانه العمل السياسي، وها هو في صمت مهين، فلم يُصدر ولو بيانا يدين الانقلاب، أو يتضامن فيه مع صديق عمره الشيخ الغنوشي، والذي لولا تذكره للأيام الخوالي، لما شاهدناه في قمة العمل السياسي، يملأ الدنيا ضجيجا وبهلوانية، ولأكمل صمته الذي بدأه في عهد الرئيس بن علي!

بيد أن المشكلة في الشغف بالسلطة، الذي جعل رجلاً في الثمانين من عمره، يقدم على رئاسة البرلمان، وهو الذي طمأن الجميع لحظة عودته إلى تونس بعد نجاح الثورة، أنه لن يمارس العمل السياسي وسيكتفي بالعيش في هدوء!

ولا جناح على المرء إن داعبته أحلام السلطة، لكن السلطة كالإنجاب، إن لم يأتِ في وقته، سيكون عبئاً إذا جاء في غير أوانه، وقديماً قالت العرب: “أولاد الشايب يتامى!”.

هيبة الغنوشي:

والحال كذلك، فقد خضع الغنوشي لعملية تمهيدية استهدفت النيل من هيبته، من خلال النائبة عبير؛ وكان يمكنه بتعديل في لائحة البرلمان، وبالاستعانة بلوائح أي برلمان في أي بلد ديمقراطي، إسقاط عضويتها مع التمادي في الإخلال بنظام الجلسات! لكن اختلط عنده سلوك الداعية بسلوك السياسي، وتغلب الأول على الثاني، لتكون الخطوة التالية هي حل المجلس، وعزله وحركتَه، ثم سجنه، فبدا مستسلما لكل هذا، وبدا قيس سعيد يتسلى بهم، وبأقل فاتورة لدعم الانقلاب، فحتى الإقليم الراعي لانقلابه لم يقم بتعويمه اقتصادياً، وهو قادر على ذلك؛ لكن ما الذي يدفعهم لتقديم المساعدات والرجل يمشي قدماً في انقلابه غير مكترث بشيء؟!

إن قيس سعيد بضعفه أقوى من السيسي، مع أن الأول لا يملك من حطام السلطة إلا القرار السياسي، والثاني خلفه الجيش، والشرطة، ومليشيات العرجاني، والمجتمع الدولي، والدولة العميقة، لكنه مع تصلبه فإن إمكانية التخلص منه – ولو من دوائره- واردة، لكن سعيد يبدو أنه ليس هنا، فماذا تملك المعارضة؟ التظاهر لساعات بشارع الحبيب بورقيبة؟ فليتظاهروا! فهو يعيش مع نفسه ومن أجل نفسه، وقد شكل برلمانه، وبدأ يتحدث عن الانتخابات الرئاسية، وستكون على مقاسه، بل إنه يستطيع تعديل الدستور ليجعل الرئاسة أبدية!

إنْ فض المظاهرات بالقوة، وإن دفع للخوف، فقد يسقط حاجز الخوف بالاستفزاز، لكن قيس سعيد لا يملك القوة التي يمكن بها أن يفض المظاهرات فيستفز الناس، وقد ينتبه لذلك العالم الخارجي؟!

لابد من رؤية جديدة للتعامل مع “حالة ” الرئيس قيس سعيد!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...