كوسوفو: مشروعُ دولةٍ على برميل بارود!

بواسطة | يونيو 3, 2023

بواسطة | يونيو 3, 2023

كوسوفو: مشروعُ دولةٍ على برميل بارود!

أسفر تجدّد القلاقل الأمنية في كوسوفو عن إصابة 30 من جنود بعثة حفظ السّلام الدولية و52 من المتظاهرين الصّرب على الأقلّ بجروح. ويعزو هؤلاء المتظاهرون احتجاجَهم إلى أنّ رئيس الوزراء “أَلْبِينْ كُورْتِي” سهّل فوز المرشحين الألبان في انتخابات البلديات في شمال البلاد حيث لم يصل الإقبال على صناديق الاقتراع نسبة 4 بالمئة في أبريل/نسيان الماضي. وقرّر حلف شمال الأطلسي نشر 700 جندي إضافي إلى قوة حفظ السّلام التي تشمل 3800 عنصر بقيادة الحلف. بيد أن مسؤولي الكرملين قالوا إنّ موسكو “تراقب الوضع عن كثب”، وتؤيّد “جميع الحقوق والمصالح المشروعة لصرب كوسوفو”. في المقابل، صرّح منسّق السّياسة الخارجية  في الاتّحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” بأنّ “الوضع الحالي خطير وغير مستدام، ونحن بحاجة إلى وقف التصعيد بشكل مستعجل.”

أمر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بوضع قواته بلاده في حالة تأهّب قتالي كامل ونشرها بالقرب من الحدود مع كوسوفو.

ينطوي الموقف الراهن على ثلاثة مستويات من التصعيد: أ) تصعيدٌ محليٌّ بين صرب كوسوفو وحكومة كورتي وسط سجال مفتوح حول نتائج الانتخابات، وب) تصعيدٌ إقليميٌ بفعل أن صربيا تعارض الاعتراف باستقلال كوسوفو، فيما قرّر الحلف إلغاء مشاركة كوسوفو في التدريبات المشتركة المعروفة باسم “الدفاع عن أوروبا 23” Defender Europe 23، وج) تصعيدٌ دوليٌ في ظلّ تلويح رئيس الوزراء كورتي بأن روسيا “ضالعة في موجة التصعيد الجديد”، وأن المتظاهرين كانوا “يرسمون على الجدران حرف Z”، كناية عن تأييدهم الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا وإعجابهم بالرئيس فلاديمير بوتين. واتّهم رئيس كوسوفو فيوزا عثماني بدوره صربيا بزعزعة استقرار جارتها الجنوبية، وأنّ “مجموعات صربية مارقة” قد تحوّلت إلى “عصابات إجرامية هاجمت شرطة كوسوفو وضباط حفظ السلام والصحفيين في كوسوفو”، وأنّها تعمل لتنفيذ أوامر  الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش على حدّ قوله. لكن ثمة انتقادات فرنسية وألمانية وأمريكية تتزايد باللوم بأن سلطات كوسوفو هي من تسبب في زعزعة الوضع المحلي، وحذّرتها من مغبّة أيّ أعمال من شأنها أن تؤجّج التّوترات العرقية هناك.
في المقابل، أمر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بوضع قواته بلاده في حالة تأهّب قتالي كامل ونشرها بالقرب من الحدود مع كوسوفو. ويزداد توجّس رئيس وزراء كوسوفو الذي أبدى مرونة نسبية بشأن إجراء انتخابات مبكرة: “لو كان هناك احتجاج سلمي لإجراء انتخابات مبكرة، لكنت سأتفهم ذلك. لكن لا أن يطلق الغوغائيون الذين يحملون الحرف Z النار على الجنود ورجال الشرطة، ويرمون القنابل اليدوية وهو يهتفون: “اقتل ، اقتل”. أقول لهؤلاء الغوغائين الفاشيين ، نحن لا نتنازل عن جمهوريتنا الديمقراطية. وإذا كانوا يريدون احتجاجات سلمية تطالب بإجراء انتخابات مبكرة ، فلديهم رئيس وزراء أكثر من راغب في الاستماع إليهم وربما يتفق معهم في الرأي.” ولوّح السفير الأمريكي في كوسوفو جيفري هوفينيه بإن الولايات المتحدة ستلغي مشاركة كوسوفو في التدريبات العسكرية المشتركة وتعلق الاجتماعات الدبلوماسية الثنائية، وأنّها ستتوقّف عن حشد التّأييد لعضوية كوسوفو المنشدوة في المنظّمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
حزمةٌ متناميةٌ من مواقف التصعيد والتصعيد المضاد بين الصرب والألبان وأنصارهم الإقليميين والدوليين تثير في الذاكرة نذيرَ حرب أخرى على غرار ما شهدته كوسوفو في عامي 1998 و1999، وأودت بحياة أكثر من 10 آلاف شخص وتشريد أكثر من مليون شخص، وأدّت إلى نشر مهمة حفظ سلام دولية بقيادة حلف شمال الأطلسي في المنطقة لقرابة ربع قرن بموجب القرار الدولي 1244 الذي اتخذه مجلس الأمن في العاشر من يونيو 1999. وقد أعلن وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف هذا الأسبوع بأنه “يجري التحضير لانفجار ضخم وسط أوروبا، في المكان الذي هاجم فيه حلف شمال الأطلسي يوغوسلافيا عام 1999 وهو ينتهك كل مبدأ (دولي) يمكن تخيّله”. في الوقت ذاته، حثت وزارة الخارجية الصينية قادة الحلف على احترام سيادة ووحدة أراضي “الدول المعنية، والقيام بما يخدم السلام الإقليمي حقًا.”

تجسد الأزمة الجديدة في كوسوفو هشاشة الاتفاقات السياسية مل لم تحتوِ وتحوّر الأسباب الجذرية للصراع في صيغته الأولى.

يتغذى التصعيد الراهن من حساسيات عرقية وحسابات قديمة جديدة بين أغلبية ألبانية وأقلية صربية قد تكون صغيرة ديمغرافيا، لكنها تلوّح بعضلات سياسية قوية بفعل روابطها مع حكومة بلغراد ودعم موسكو وبقية مناصري القومية الصربية في دول البلقان. وتعتد أغلب الدراسات السكانية بأن مجتمع كوسوفو يشمل نسبة 88٪ من الألبان، و8٪ من الصرب الذين لا يزالون متمسكين بعلاقتهم مع جمهورية صربيا التي أعلنت كوسوفو الاستقلال عنها في السابع عشر من فبراير 2008، وحصلت على السيادة الكاملة عام 2012. ويعد الألبان الفئة العرقية الأسرع نموا في أوروبا بمعدل نمو 1.3٪سنويًا. لكن يستمر السجال السياسي والدبلوماسي حول ما إذا كوسوفو دولة قائمة بذاتها. وقد حظيت باعتراف عدد من دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأيضا اليابان والدول الصناعية السبع الرئيسية. وفي الرابع من مارس 2020، كانت 101 من أصل 193 مجموع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (52.3٪)، و22 من أصل 27 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي (81.5٪)، و27 من أصل 31 دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (87.1٪)، و33 من أصل 57 من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي (57.9٪) قد اعترفت باستقلال كوسوفو. لكن دولا أخرى تتفادى الاعترافَ باستقلالها، ومنها صربيا وروسيا و الأرجنتين والبرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا وجنوب إفريقيا.
بيد أن صربيا وكوسوفو وقّعتا اتفاق بروكسيل في التاسع عشر من أبريل عام 2013 للبدء في تطبيع العلاقات بينهما بعد عشر جولات من المفاوضات التي قادها رئيس الوزراء الصربي آذاك إيفيكا داتشيتش، ورئيس وزراء كوسوفو هاشم تاتشي، بوساطة الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون. ووافق الطرفان لاحقا على تطبيع العلاقات الاقتصادية في شهر سبتمبر 2020. وتجددت محاولات التطبيع بين بريشتيا وبلغراد في السابع والعشرين من فبراير 2023 بما سمي “اتفاقية أوهريد”، أو اتفاقية طريق التطبيع بين كوسوفو وصربيا بوساطة الاتحاد الأوروبي بهدف تطبيع العلاقات الدبلوماسية. وقد قبل رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي ورئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش الاتفاق الجديد شفهيًا على أساس الاتفاق على خطة لتنفيذه في 18 مارس 2023.
تجسد الأزمة الجديدة في كوسوفو هشاشة الاتفاقات السياسية مل لم تحتوِ وتحوّر الأسباب الجذرية للصراع في صيغته الأولى. وتنطوي على معضلتين رئيسيتين: معركة القوميات والصدمات المختارة ومعركة الوصايات المتضاربة. أولا، لم تصل كوسوفو بعد، بعد مرور خمسة عشر عاما على استقلالها، إلى بلورة مواطنة متكافئة فوق خط التباينات العرقية والولاءات القومية. إذ ينشطر سكانها بين أغلبية تتقوّى بعلاقاتها مع ألبانيا التي يعتبرها رئيس الوزراء كورتي العمق الاستراتيجي الطبيعي لبلاده، فيما تميل أغلبية صرب كوسوفو إلى الاحتماء بصربيا وقومية المسؤولين في بلغراد وبقية العواصم التي تناصر القومية السلافية والتي تستند إلى تاريخ طويل يعود إلى ستينيات القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الحركة السلافية عن سبيل للقيادة، وكذلك الحماية من الحكم النمساوي المجري والتركي.
تبنّى القوميون السلافيون أيضا فكرة أن أوروبا الغربية كانت مفلسة روحياً وثقافياً، وأن المهمة التاريخية لروسيا تكمن في تجديد شباب أوروبا من خلال الهيمنة السياسية عليها. بل تشبّعوا أيضا بأن مهمة روسيا لا يمكن أن تتحقق دون دعم الشعوب السلافية الأخرى، التي يتعين تحريرها من الأسياد النمساويين والأتراك وتوحيدهم في اتحاد سلافي يقوده الروس. ويعتدون أيضا بما يمثل “صدمة مختارة” chosen trauma بتعبير عالم النفس الاجتماعي فاميك فولكان. إذ يعتبر القوميون الصرب معركة عام 1389 ضد الأتراك العثمانيين رمزا تاريخيا لنضالهم الوطني. ويوجد في كوسوفو العديد من الأديرة المسيحية الصربية الأرثوذكسية التي يعود إلى العصور الوسطى. بيد أن الأغلبية الألبانية في كوسوفو تتمسك بروابط الوطن الجديد: كوسوفو، وتتهم صربيا باحتلاله وقمع سكانه. وقد شن المتمردون الألبان معركة من أجل ما اعتبروه “تحرير البلاد” من الحكم الصربي عام 1998.

تتأجّج المعركة الثانية بفعل تداخل دوائر الوصايات المتنافسة والهويات المتفجرة  في دول البلقان: إذ تدعم صربيا صرب كوسوفو، وتشدّ روسيا عَضُدَ جميع الصرب وغايات القومية السلافية.

لا غرابة أن يكون هناك تقاطع بين المواقف السياسية والقناعات الشخصية بالنظر إلى رئيس الوزراء ألبين كورتي كان زعيما طلابيا متمردا ومعتقلا سياسيا سابقا في صربيا. وهو حاليا من أشد المؤيدين لتوحيد كوسوفو مع ألبانيا وضد أي حل وسط مع صربيا. في المقابل، يقود صربيا حاليا الرئيسُ ألكسندر فوتشيتش، وهو يميل إلى الخطاب الشعبوي وكان وزيراً للإعلام أثناء الحرب في كوسوفو. ويصرّ بفعل أفكاره القومية على أنّ أيّ حلّ يجب أن يكون بمثابة حلّ وسط حتى تكون له قابلية الاستمرار، ويتمسك بأنّ صربيا لن تقبل أي تسوية ما لم تحقق بعض المكاسب.
ثانيا، تتأجّج المعركة الثانية بفعل تداخل دوائر الوصايات المتنافسة والهويات المتفجرة  في دول البلقان: إذ تدعم صربيا صرب كوسوفو، وتشدّ روسيا عَضُدَ جميع الصرب وغايات القومية السلافية. لكن تنظر إلى موقف التأييد من قبل أوروبا والولايات المتحدة لكوسوفو واستكمال الاعتراف بها والترحيب بها مستقبل في عضوية الأمم المتحدة، على أنه وصاية منافسة تهدد الوحدة القومية السلافية الممتدة عبر الحدود الجديدة. ويمثل هذا التقابل تكرارا لسيناريو متأخر في كوسوفو لما عايشته دول أخرى انفصلت عن الاتحاد السوفياتي المنحلّ في فترة أوائل التسعينات.
قد يمثل توسيع عدد جنود بعثة حفظ السلام في كوسوفو خطوة أولى لاحتواء الموقف أمنيا كضرورة قصوى في تطور التصعيد في الصراعات وتفادي إطلاق النار بشكل عام. وتمثل فكرة إعادة انتخاب البلديات في شمال البلاد عاملا مهما في استعادة الثقة إلى رأب الصدع بين الأقلية الصربية والأغلبية الألبانية، والخروج من عنق زجاجة تخنقها الحساسيات العرقية ورواسب التاريخ، على حساب مشروع دولة تريد أن تحظى باعتراف العالم. لكن، قد تتحول إلى بؤرة صراع دولي بفعل تعثر استقرار ميزان القوى بين الدول العظمى بين الشرق والغرب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...