كيد الأمريكان يرتد إلى نحورهم

بواسطة | يناير 3, 2024

بواسطة | يناير 3, 2024

كيد الأمريكان يرتد إلى نحورهم

نهل معظم أبناء وبنات جيلي الكثير من معارفهم السياسية من معين إذاعة صوت العرب في مصر، على عهد الرئيس جمال عبد الناصر؛ ففي ظروف ضعف الإذاعات الوطنية في كل الدول العربية، وفي فترة كانت فيها القوى الاستعمارية متحكمة في أمور كثير من أقطار المنطقة، كانت “صوت العرب” تتولى عمليات الشحن السياسي والعاطفي، وكما هو حال البروباغندا السياسية عبر العصور، فكثيرا ما بذلت تلك الإذاعة الوعود الكاذبة، ووعدتنا “بنبيذٍ وبأنخاب جديدة، وبأقواس قزح”.. كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن قوات العاصفة الفدائية – التابعة لمنظمة فتح- في ستينيات القرن الماضي.

شيء واحد مما غرسته في وجداني إذاعة صوت العرب لم يتزعزع أو يتضعضع، بل زادتني الوقائع اقتناعا بصحته، وهو أن عدو العرب الأول ليس إسرائيل بل الولايات المتحدة، وأن إسرائيل ما هي إلا وكيل أعمال واشنطن في الشرق الأوسط، تأتمر بأوامرها وتنتهي بنواهيها، ولو أمرتْها اليوم في حربها على غزة أن تكف عن العدوان، لانصاعت إسرائيل للأمر، ولكنها تغذي ذلك العدوان بالسلاح والمال، لأن الثقافة السياسية للولايات المتحدة تمجد العنف، حتى داخل حدودها الجغرافية والسياسية، حيث حيازة السلاح الناري حق دستوري، وما ذلك إلا لأن صُنّاع السلاح الأمريكان يشكلون أكبر مجموعة ضغط (لوبي) في أروقة البرلمان الأمريكي (الكونغرس)، ومن مصلحة تجار السلاح الأمريكان أن تشتعل الحروب هنا وهناك، وهكذا فإن عائدات تزويد أوكرانيا وإسرائيل بإمدادات هائلة من الأسلحة تصب في جيوب أولئك التجار.

بسبب الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وتصاعد التوتر مع الصين في المحيطين الهادي والهندي، وعلى ذمة “وكالة تعاون الأمن الدفاعي” الأمريكية DSCA، فقد حققت مبيعات السلاح الخارجية خلال العام المالي 2022 قفزة تقترب نسبتها من 50%، حيث كان عائدها 53 مليار دولار مقابل 34 مليار في عام 2021. أما على صعيد سوق السلاح الداخلي، فتكفي الإشارة إلى أن العنف المسلح في الولايات المتحدة يسفر عن عشرات الآلاف من القتلى والجرحى سنوياً؛ ففي عام 2013 – مثلا- سُجلت 73505 إصابة بأسلحة نارية إلى جانب 33636 حالة وفاة بطلقات نارية، وكانت نسبة 64% من الوفيات المرتبطة باستخدام الأسلحة النارية حالات انتحار، ففي عام 2010 كانت هناك 19392 حالة انتحار بالأسلحة النارية، وبلغ مجموع من قُتلوا بالرصاص في الفترة ما بين 1968 و2011 مليون وثلاثمائة ألف ضحية. 

 ومقارنة مع 22 دولة أخرى ذات اقتصاد قوي، فإن معدل جرائم القتل المرتبطة بالأسلحة في الولايات المتحدة ارتفع نحو 25 مرة في عام 2018، على الرغم من أن عديد سكان الولايات المتحدة دون نصف عديد سكان الدول الـ 22 الأخرى مجتمعة، ومع هذا كان نصيب الولايات المتحدة من القتلى 82٪ من مجموع ضحايا الأسلحة، ونتج هذا -حسب تقارير دائرة أبحاث الكونغرس في عام 2019- لوجود 350 مليون قطعة سلاح ناري في أيدي مواطني الولايات المتحدة.

إذا كان ثمة مجال نتفوق فيه نحن – أهل الشرق- على الغربيين، فهو مجال العافية النفسية.. فبالمعيار المادي – وهو معيار هلامي- قد يكون الشرقيون أقل سعادة، ولكنهم بالمعيار الموضوعي المحسوس أقل عرضة للاضطرابات النفسية والعاطفية؛ ففي الفترة 2019-2020، عانى 21% من الأمريكان – أي نحو 50 مليون شخص- من علل نفسية، ولكن معظمهم لا يجد أي قدر من الرعاية الصحية، لأن مظلة التأمين الصحي لا تتسع للفقراء.

وإذا كان اليهود – كما يرون أنفسهم- “شعب الله المختار”، فالأمريكان هم شعب الله المسطول، لأنهم أكثر أهل الأرض استهلاكا للمخدرات، ومع هذا فإن أكثر من 93% من مدمني المخدرات، لا يجدون عونا يخلصهم من الدمار الجسدي والنفسي لصحتهم، وتفيد دراسات مسحية أجرتها هيئات صحية مرموقة أن الأمريكان أيضا أكثر الشعوب ميلا للانتحار، بسبب تفشي الاعتلال النفسي، ولا ينافسهم على ذلك المركز سوى الأوكرانيين (منذ ما قبل تعرضهم للغزو الروسي)، يليهم اليابانيون واليونانيون والكوريون الجنوبيون.

ولعل هذه الأرقام تشي بأن الرفاه المادي لا يجلب الراحة والعافية النفسية، بل – وبالنظر إلى النموذج الأمريكي- قد يؤدي إلى تجريفها، فالقانون السائد في أرض الأحلام الباذخة – كما يحلو للأمريكان تسمية بلدهم- هو المثل السوداني “الحشاش يملأ شبكته”، والحشاش هنا هو الأكثر قدرة على حشِّ (قصّ) وتجميع الحشائش لإطعام ما عنده من بهائم، أي أن الأكثر قدرة على تلك المهمة يفوز بالمغانم؛ وما يحدث في الولايات المتحدة هو أن كل مجال مفتوح للمنافسة الشرسة، ولهذا فالأسماك الكبيرة فيها تفترس صغار السمك.. ووفقا لتقارير وزارة الزراعة الأمريكية، عانى أكثر من 34 مليون أميركي من شح الطعام في عام 2021، بينما يعيش تحت مستوى خط الفقر ما لا يقل عن 12 مليون طفل، أي ما يقرب من سُدس الأطفال الأميركيين.

الرأسمالية التي يطبقها الأمريكان شديدة الشراسة، ولا مكان فيها لضعيف، وعلى كل راشد وبالغ أن يسعى بالناب والظفر لتحقيق الحلم الأمريكي؛ ولهذا ما إن يبلغ شاب سن الـ18 حتى يقول له الوالدان “باي، أعطنا عرض أكتافك”، وما إن تفشل بنت بلغت الـ16 في الحصول على “حبيب” حتى يعايرها أهلها بـ”البوار”؛ والغريب في الأمر هو أن الأمريكان هم أكثر شعوب الغرب “تديّناً”، وما يسمى بالحزام الإنجيلي في الولايات المتحدة يشمل ولايات مثل تكساس وأوكلاهوما، حيث تشكل البروتستانتية التبشيرية المحافِظة العنصر الرئيس في ثقافة ساكنيها، الذين يشكلون الرصيد التاريخي للحزب الجمهوري، الذي يأتي برؤساء من شاكلة الكذوب المخاتل نيكسون، والعصامي في جهالته دونالد ترامب، الذي يرى في الحد من انتشار السلاح اعتداءً على الحريات الشخصية، ومن ثم فتديُّن أهل تلك الولايات قِشري – مظهري، لا يتعدى ارتياد الكنائس بين الحين والآخر، ولا يعصمهم من التنكيل بالمواطنين السود وذوي الأصول اللاتينية.

والشاهد هو أن استخفاف الحكومات الأمريكية المتعاقبة بحياة وكرامة وحرية إنسان أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وكيدها له بالسلاح بالأصالة وبالوكالة، صار يرتد إلى نحور شعبها، حتى صار أكثر شعوب الأرض تعرضا لخطر الموت والإصابة، وأقل شعوب الأرض عافية نفسية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...