كيف تفاوض حماس إسرائيل؟

بواسطة | مايو 10, 2024

بواسطة | مايو 10, 2024

كيف تفاوض حماس إسرائيل؟

منذ بدء عملية السابع من أكتوبر تتجه الأنظار نحو قطاع غزة، يراقب المتابعون أداء المقاومة الفلسطينية على الصُّعد، العسكري والميداني والسياسي، ويشاهدون بوضوح حجم الإرهاب والجرائم الإسرائيلية التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء. وإسرائيل منذ اللحظة الأولى لتلقّيها صدمة طوفان الأقصى عملت على بلورة خطة عسكرية على أربع مراحل متتالية، كل واحدة منها ترتكز على سابقتها.

ـ المرحلة الأولى تشمل التدمير الممنهج للبنية التحتية المدنية والمؤسسات الاقتصادية والصحية في قطاع غزة، وتدمير كل مقومات الحياة الآدمية، مع قطع كامل للمياه والكهرباء والغاز.

ـ المرحلة الثانية تركّز على تفكيك البنية القيادية للمقاومة الفلسطينية، وقتل قادة الصف الأول والثاني والثالث، مع تدميرٍ مركّز للبنية التحتية للمقاومة، وأدوات الضبط والسيطرة العملياتية لديها، وقد شكلت هذه المرحلة ذروة الحرب حين دفعت قوات الاحتلال بـ ٦ فرق قتالية و٢٠٠٠ دبابة ومدرعة إلى داخل القطاع.

ـ المرحلة الثالثة تعتمد على الجهد الاستخباراتي لإتمام ما تحقق في المرحلتين الأولى والثانية، من خلال تفكيك الكتائب القتالية، وقتل قادة المقاومة، واستكمال تدمير مقدراتها، وتحقيق عملية تفكيك كاملة لبنية حكم حماس المدني للقطاع.

ـ المرحلة الرابعة تمثّل مجموع نجاحات المراحل الثلاثة الأولى، وتمهّد الطريق لإتمام سيطرة إسرائيل الأمنية على قطاع غزة، وبناء منظومة الحكم التي تنسجم مع الاحتلال، تمهيداً لما عُرف إعلامياً باسم “اليوم التالي للحرب”.

وعلى مدار ٢١٥ يومًا من عمر أطول حروب إسرائيل على الإطلاق، كان واضحاً أن الخطة العسكرية تتعثر، وأن المراحل الأربعة لم تحقق نجاحًا  بالكيفية التي تمنتها قيادة الحرب في إسرائيل، باستثناء المرحلة الأولى التي تحولت من إنجاز عسكري إلى فضيحة أخلاقية كبيرة تدفع إسرائيل ثمنها الآن على الصعيد الدولي، كما شكلت فشلاً أخلاقياً للإدارة الأمريكية التي شاركت إسرائيل بشكل وثيق في إدارة الحرب على قطاع غزة.

أما المراحل الأخرى، فمن الواضح أن إسرائيل ذاتها غير مقتنعة بنجاحها، بدليل دفعها بفرقة عسكرية كاملة خلال الاجتياح الأخير لمجمع الشفاء الطبي، ما يعني قناعتها عسكرياً بتعافي المقاومة الفلسطينية، كما أن كمين الزنة و كمين المغراقة وقصف القاعدة العسكرية في كرم أبو سالم، كل ذلك كشف عن حجم الضبط والسيطرة والجهد الاستخباراتي للمقاومة الفلسطينية، يقابله الفشل والتخبط لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

هذا الواقع الميداني العملياتي يُتابعه الجمهور على مدار الساعة، لكن الأيام الأخيرة كشفت لنا عن ساحة أخرى لا تقل في ضراوتها وتعقيد مشهدها عن ساحة المواجهة العسكرية، وهي “الساحة السياسية التفاوضية”؛ فمع تصاعد الغضب الأمريكي والإسرائيلي، الذي بلغ ذروته من خلال ممارسة ضغوط جدية على دولة قطر (إحدى الدول الوسيطة) لطرد قيادة حماس، وقيام إسرائيل بإغلاق مكاتب قناة الجزيرة في فلسطين، بسبب عدم قدرة الوسطاء – كما تقول أمريكا وإسرائيل- على دفع المقاومة الفلسطينية للقبول بـ”أي صفقة معروضة على الطاولة حتى الآن”، وصولاً إلى لحظة إعلان حماس المفاجئ عن قبولها بمسودة الاتفاق الذي طرح عليها عبر الوسطاء، ما أربك المشهد السياسي لدى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية، وأدخل كلتا الحكومتين في أزمة حقيقية ظهرت ملامحها على وجه جون كيربي، الذي قال إنه علم بموافقة حماس عبر قناة الجزيرة.

 هذا الأمر دفعنا لطرح سؤالين: ما الذي يدور خلف كواليس العملية التفاوضية؟ وكيف تُدير المقاومة الفلسطينية مفاوضاتها مع إسرائيل؟

للإجابة عن هذين السؤالين كان لا بد من العودة قليلاً للوراء، وإلى العام ٢٠١٤م على وجه التحديد، حين انتهت الحرب الإسرائيلية على غزة بـ “لا شيء”، وتبخرت كل الوعود والاتفاقيات التي توصل لها الوفد الفلسطيني المفاوض في ذلك الوقت برئاسة “عزام الأحمد”، القيادي في حركة فتح، وعضوية قوى المقاومة الفلسطينية، وبمشاركة ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، وبوساطة حصرية “للمخابرات المصرية” التي أفشلت جهداً أمريكياً وقطرياً كاد ينجح بعد الأسبوع الأول للحرب، لتمتد الحرب ٥١ يوماً!

لقد أثبتت هذه الحرب أن المقاومة الفلسطينية قادرة على إيذاء الاحتلال الإسرائيلي في الميدان العسكري، لكنها ما زالت غير قادرة على تطويع هذا العمل العسكري لمُنجز سياسي تُقدمه للشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي أثار حفيظة جمهور واسع من الفلسطينيين حول جدوى المواجهة العسكرية إذا كانت غير قادرة على تحقيق مُنجزات سياسية وحياتية.

شكل السابع من أكتوبر بلا أدنى شك لحظة تاريخية من عمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حققت معه المقاومة الفلسطينية إنجازاً عسكرياً غير مسبوق على صعيد تحطيم هيبة الجيش الإسرائيلي استخباراتياً وعسكرياً، فالمقاومة أطلقت عملية طوفان الأقصى في لحظة تاريخية فارقة من عمر القضية الفلسطينية، بناء على معطيات وحقائق عن حراك عالمي هدفه النيل من القضية الفلسطينية ودمج إسرائيل في المنطقة، وشيطنة المقاومة باعتبارها حالة منبوذة في واقع عربي جديد.

باشرت المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى وهي تعلم حجم الصدمة التي ستُحدثها، فقد أعادت تموضعها كنِدٍّ لهذا الاحتلال، وهذه النديّة شكلت صدمة للاحتلال ولأمريكا والعالم، كانت تعرف أنها معركة النور على الظلام حتى قبل أن يعلن نتانياهو ذلك عشية السابع من أكتوبر، كانت تعلم أنها ليست جولة كأي جولة، هذه المعركة التي قُدّر لها أن تحرر العقل الجمعي الذي صدّق أنه لا يمكن أن نكون ندّا! وذلك تمهيدا لتحرير الأرض والإنسان من آخر احتلال على وجه الأرض.

إذًا، مضت المقاومة في هذه المعركة كخيار استراتيجي لا تكتيكي لتغيير موازين القوى، وإعادة رسم الخارطة السياسية من جديد تحت شعار “الحقوق الفلسطينية أولاً”. كما أن المقاومة استفادت من الدروس والعبر من المواجهات السابقة مع إسرائيل، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل أيضًا على الصعيد السياسي والتفاوضي. ويمكن استخلاص أبرز ملامح هذه الدروس من خلال ما يلي:

أولاً- تعدد الوساطات: في كافة المواجهات السابقة بين المقاومة والاحتلال، برزت مصر عبر جهاز المخابرات العامة كوسيط وحيد بين الطرفين، بل إن الجانب المصري كان يُفشل أي جهد يحاول تجاوزه؛ إلا أن المقاومة في هذه الحرب أدخلت – منذ اللحظة الأولى للمعركة- عدة جهات على خط اتصالاتها السياسية، وفتحت المجال للعديد من الأطراف لممارسة دور الوساطة، ونجحت بشكل مُلفت للانتباه في إحداث حالة من التناغم والانسجام بين الأطراف الوسيطة بما يخدم أهداف المعركة السياسية.

ثانيًا- لجان متخصصة: شكلت المقاومة الفلسطينية عدة لجان متخصصة لدعم القرار السياسي، كما أنها أبعدت كل الأطراف الفلسطينية غير المشاركة في الفعل الميداني عن التدخل في رسم ملامح المرحلة المقبلة، وبقيت في حالة انعقاد مستمر مع فصائل المقاومة المنخرطة ميدانيًّا في مقاومة الاحتلال.

ثالثًا- الدول الضامنة: يظهر جليًّا حرص المقاومة الفلسطينية على إقحام أطراف إقليمية ودولية كـ”دول ضامنة” لأي اتفاق قادم مع الاحتلال، وعدم ترك الساحة له للتنصل مما قد يترتب على المفاوضات.

رابعًا- التناغم بين الفعلين الميداني والسياسي: نجحت المقاومة الفلسطينية في خلق حالة من التناغم بين فعلها الميداني وجهودها السياسية، وحرصت على تخفيف الضغط عنها من خلال إبقاء الرد النهائي لأي مقترحات بيد قيادة المقاومة في غزة، فهي الأقدر على تقدير ظروفها الميدانية والعسكرية من جانب، ومن جانب آخر لا تستطيع الدول الوسيطة أن تمارس عليها ضغطاً أكبر، حتى لو طلبت ذلك الإدارة الأمريكية.

خامسًا- سياسة “نعم، ولكن”: تبنت قيادة المقاومة الفلسطينية استراتيجية جديدة في أدائها السياسي، قائمة على سياسة “نعم، ولكن”، فمنذ اليوم الأول، لم ترفض أي مقترح مقدم لها، بل قبلت مناقشة جميع العروض بروح إيجابية، تحت شعار “تجنب الوقوع في شيطان التفاصيل”؛ وقد دفعت هذه الاستراتيجية حتى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى الإشادة بالروح الإيجابية التي أبدتها حماس خلال بعض جولات التفاوض؛ وفي المقابل، كشفت هذه الاستراتيجية عن حالة تخبط سياسي لدى الاحتلال الإسرائيلي.. هذا الانكشاف دفع الإدارة الأمريكية لمحاولة التستر عليه من خلال مزيد من الضغط على الوسطاء، لدفع حماس لتقول “نعم” دون إرفاقها بـ “لكن”، للحفاظ على ماء الوجه لإسرائيل، ولإنقاذ الحزب الديمقراطي الذي يعيش لحظات صعبة مع تصاعد الاحتجاجات الطلابية الرافضة للإبادة الجماعية في غزة، وانخفاض شعبية الرئيس بايدن، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكن حماس حين قررت أن تقول “نعم”، اختارت أن تقولها في توقيت يخدم أهدافها بإيقاع المزيد من الخسائر السياسية لدى قيادة إسرائيل، والمزيد من الإحراج السياسي للإدارة الأمريكية.

سادسًا- استقطاب ساحات إقليمية: نجحت المقاومة الفلسطينية في استقطاب ساحات إقليمية إلى جانبها لأول مرة بهذا الشكل، وتوظيف التطورات الإقليمية والدولية لصالح الجهد السياسي الذي تقوم به؛ فبات من الواضح أن المقاومة توظف تطورات الأحداث على الجبهتين اليمنية واللبنانية بما يحقق مزيداً من الضغط على الإدارة الأمريكية، وعلى دول المنطقة التي تخشى من توسع دائرة الصراع؛ كما أن هذه المشاركة العملياتية لقوى إقليمية تدفع دولاً ذات مصالح في المنطقة، مثل الصين وروسيا، لممارسة ضغط إضافي على الإدارة الأمريكية وإسرائيل بشكل يُبقي هامش مناورتهما أقل. بالإضافة إلى ذلك، يظهر لي أن قيادة المقاومة – والتي تجد نفسها في وضع أفضل عسكرياً بعد فشل مراحل الخطة العسكرية الإسرائيلية- تُريد أن تمنح الحراك العالمي والطلابي في أمريكا وأوروبا فرصته الكافية لاكتساب زخم أكبر لصالح القضية الفلسطينية، ما يساهم في تحقيق مكاسب دولية إضافية للقضية الفلسطينية.

أمام كل هذه المعطيات والحقائق، يبدو واهماً من يعتقد أن المقاومة ستقبل بمجرد وقف لإطلاق النار وانسحاب للجيش الإسرائيلي من غزة وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.. ونقطة، وإن كانت هذه هي المبادئ التي تعمل المقاومة على وضعها كركيزة أساسية للانطلاق نحو مفاوضات أوسع تُعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.

هذه المقاومة التي تتقن جيدا فن التفاوض مع المستعمر أتقنت دور الند بمهارة، هي تعرف جيدا كيف تنتزع أهدافها الاستراتيجية من أنياب أمريكا والاحتلال والمطبعين والمتخاذلين، الذين يضغطون عليها للتعامل بشكل تكتيكي مع هذه المعركة! المقاومة متمكنة من أدواتها والأوراق التي توظفها محليا وإقليميا ودوليا.. المقاومة تدير معركة استراتيجية لا تكتيكية، معركة تخولها لفرض واقع جديد يليق بدماء الشهداء وذويهم وجراح المصابين والأسرى، يليق بتضحيات أهل غزة وصبرهم، يليق بتضحيات المقاومة وإعدادها، ويليق بحركة التحرر الحاصلة على مستوى الأفراد في غزة وفلسطين والمنطقة وكل العالم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...