كيف قارن القرآن الكريم بين مشاهد الدنيا والآخرة؟

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 9 يونيو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

| 9 يونيو, 2023

كيف قارن القرآن الكريم بين مشاهد الدنيا والآخرة؟

اعتنى القرآن الكريم اعتناء فائقا، وركز تركيزا بالغا في توعية الفرد المسلم بحقيقة الدنيا، ولا يزال القرآن الكريم والسنة النبوية يذكران النصوص التي تحذر من الانجرار مع الدنيا، والاغترار بزينتها، والركون إليها، والدعة إلى ظلالها؛ وقد قرر القرآن الكريم والسنة النبوية أن الدنيا لعب ولهو، وهي كمثل الزرع اليابس الذي نزل عليه المطر من السماء فاخضر ثم يبس فأصبح هشيما؛ ولذلك قررت السنة النبوية بكل وضوح وصراحة قِصر الدينا، وتضاؤلها في جنب الآخرة “وهذه التعبيرات البيانية تدل على أن زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعدّ أحد الموانع الكبيرة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال للإنسان، وما دام هذا المانع موجودا فإنه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية”. (د. عبد العزيز بن صالح الدعيلج، من أسرار التنوع القرآني في أحوال الحياة الدنيا، ص 15)

الآخرة كائنة وآتية لا محالة، لذلك حذرنا الله تعالى من أمرها، ورغَّبنا فيما فيها من الخير

من مقويات الإيمان معرفة حقيقة الدنيا، وأنها مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عَظُمَ، فإنه قليل حقير، قال تعالى: {إنما مثل الحياة الدّنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاخنلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازَّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تَغنَ بالأمس كذلك نُفصِّل الآيات لقومٍ يتفكرون} [يونس :24]. إن الآية الكريمة السابقة فيها عشر جمل وقع التركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شيء اختلّ التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا بسرعة تقضّيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزيّنَ بزخرفه وجه الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلمّةٌ من الجوائح، أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس. (مباحث في إعجاز القران ص 216)
وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} [الكهف :45] .
أي: واضرب يا محمد للناس في زوالها وفنائها وانقضائها {مَثَلَ الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} فيها من الحَبّ، فشبَّ، ونما، وحَسُنَ، وعلاه الزهر والنضرة، ثم بعد هذا كله {فأصبح هشيما} أي: يابسا، {تذروه الرياح} أي: تفرِّقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال. {وكان الله على كل شيء مقتدرا}، أي: هو قادرٌ على الإنشاء والإفناء.
وقال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد :20] يصف تعالى مُوهِّناً أمر الحياة الدنيا ومحقّرا لها بأنها {لعب} أي: تفريج نفس، {ولهو} أي: باطل، {وزينة} أي: منظر جميل، {وتفاخر بينكم} أي: بالحسب والنسب {كمَثَل غيث}أي: مطر، {أعجب الكفار نباته} أي: يُعْجِب الزرّاع ذلك، فإنهم أحرص الناس عليه، وأميلُ الناس إليه، {ثم يهيج فتراه مُصفرّا}، أي: تراه مصفرا من اليبس. وبعد ذلك كله {ثم يكون حطاما}، أي: هشيما منكسرا. وكذلك الدنيا لا تبقى، كما لا يبقى النبات الذي وصفناه. ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا، وانقضائها لا محالة، وأن الآخرة كائنة وآتية لا محالة، حذرنا الله تعالى من أمرها، ورغَّبنا فيما فيها من الخير، فقال تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان}، أي: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }، أي: هي متاع زائل يغر ويخدع من يركن إليها، فيغترّ بها. وتعجّبَ ممن يعتقد أنه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنها حقيرة قليلة المتاع بالنسبة إلى الدار الآخرة.

حقيقة الدنيا بكل متاعها وزينتها، وما تشتهيه النفس منها، وإن كل ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيء تافه قليل وزائل.

إن هذه الحقيقةَ التي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقة الدنيا بكل متاعها وزينتها، وما تشتهيه النفس منها، وإن كل ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيء تافه قليل وزائل. هكذا فهم المسلمون حقيقة الدنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصّرهم، ويذكّرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومكانتهم عند الله، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتّى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم وما رسالتهم في الأرض، وتأثُّرا بتربيته الحميدة تـولّد الحمـاس والعزيمـة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم وما في طاقتهم دون فتور أو توانٍ، ودون كسل أو ملل، ودون خـوف من أحـد إلا الله، ودون طمع في مغنـم أو جـاه، إلا أداء هـذا الـدور وهذه الرسـالـة لتحقيق هذه الغـايـة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة. (منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية ص 19-24).

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...