لا تعيِّروا لغةً تستعير وتُعِير

بقلم: جعفر عباس

| 12 يوليو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: جعفر عباس

| 12 يوليو, 2023

لا تعيِّروا لغةً تستعير وتُعِير

أستاء كثيرا عندما أسمع بعض شبابنا أثناء تحدثهم بالعربية، يستخدمون مفردات لغات أوربية، لها في العربية ما يقابلها؛ وصحيح أن جميع اللغات الحية تؤثر في غيرها وتتأثر، لكن ذلك يكون ضمن ضوابط تقتضيها الحاجة وتحكمها قواعد سليمة، وعندها لن يعيب لغة ما أن تستعير من لغة أخرى مفردات وتُخضِعها الى قواعد صرفها.
بالمقابل، فإن اللغات تتقوقع عندما لا يكون للناطقين بها منتوج ثقافي حضاري، أو قدرة أو رغبة في التفاعل مع محيطهم الجغرافي؛ ومن بين اللغات المحكية في عالم اليوم هناك نحو ثلاثة آلاف لغة مهددة بالاندثار في غضون ثلاثين أو خمسين سنة من الآن، وقد جاء على اللغة العربية حين طويل من الدهر، ظلت فيه متقوقعة في محيط جغرافي شديد الضيق، ثم جاء الإسلام وصارت العربية لغة القرآن، وشيئا فشيئا نشأت إمبراطورية إسلامية من بلاد السند شرقا إلى تخوم المحيط الأطلسي غربا، ودخلت شعوب أعجمية كثيرة في دين الله أفواجا، وتبنَّت اللسان العربي أفواجا، وصارت العربية لغة العلوم النقلية كالفقه والتشريع والتفسير والكلام، والعلوم الطبيعية كالطب والفلك والكيمياء، وبهذا أثَّرت العربية في لغات شعوب تلك الإمبراطورية وأسهمت في إثرائها.

لا يضير لغة أن تستعير مفرداتٍ من لغات أخرى حية، فقد نهضت البشرية مع تبادل المنافع والمعارف، وأقوى ما يميز الكائن البشري عن الكائنات الحية الأخرى ليس كونه “ناطقا”، بل استعداده وقدرته على التفاعل والتواصل مع بني جنسه

ثم بعد ذلك تقلصت تلك الإمبراطورية، ولكن بعد أن تركت بصمات واضحة في اللغات الهندو-أوربية؛ ويضم “معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية” نحو ثمانية عشر ألف كلمة ذات أصل عربي، وفي مجال علوم البحار والملاحة هناك نحو أربعمائة كلمة إسبانية جذرها عربي، وهناك نحو مئتين وثمانين كلمة عربية الأصل في اللغة الفرنسية المعاصرة، ونيف وأربعمائة مفردة عربية في اللغة الرومانية، والإنجليز أخذوا من العربية مئات الكلمات، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قبطان، كيمياء، العنبر، الكحول، قالب، الجبر، صك أو شيك، خوارزمية، قهوة، قلوي، قطن، شفـــرة، إكسير، صفر، سُكَّر، زعفران، كحل. وأخذ العرب بدورهم عن اللغة التركية مفردات ما زالت متداولة في وجود نظائرها في اللغة العربية: شنطة (حقيبة)، أسطى (الحرفي الماهر)، أبلة (معلمة)، كوبري (جسر)، كرباج (سوط)؛ وما زالت “جي” التركية لـ”النسبة” مستخدمة في كثير من الدول العربية (سفرجي، بلطجي، قهوجي).
وفي القرآن الكريم أسماء أعلام أجنبية، منها: نوح، جبريل، عمران، لوط، إبراهيم، إنجيل، توراة، سجيل، عدن، فرعون، فردوس؛ وفيه مفردات أصولها فارسية أو سريانية أو عبرية أو يونانية أو حبشية أو غير ذلك، مثل أباريق، إستبرق، زنجبيل، طاغوت، فرعون، ماعون، مشكاة؛ ولا يطعن ذلك في حقيقة أن القرآن جاء “بلسان عربي مبين”، فاللغات كائنات حية، والتوافق والتداخل بينها شائع ومعلوم؛ فاللغتان العبرية والتركية -مثلا- فيهما آلاف الكلمات ذات الأصول العربية، ولا يزعم أحد أن هذه غير عبرية وتلك غير تركية، واللغة السريانية بحكم الجيرة تشترك مع العربية في كثير من المفردات والتراكيب؛ وهناك من يرجح أن الكلمات التي توصف بالأعجمية في القرآن ليست مستعارة، بل هي مشتركة بين العرب ومن حولهم من شعوب رومانية وفارسية ونبطية وحبشية.
بعد أن دارت على العرب الدوائر صاروا، وهمُ الذين شادوا واحدة من أكبر وأقوى الإمبراطوريات في العالم، جزءا من إمبراطوريات بريطانيا وتركيا وفرنسا، وعوضا عن بذل معارفهم وعلومهم للشعوب الأخرى، صاروا يستوردون المعارف والعلوم، ومعها المفردات والمصطلحات الخاصة بها، لدرجة أنه صارت هناك معارضة قوية لتعريب المناهج الدراسية في غالبية الدول العربية، بحجة افتقار العربية للمصطلحات والعبارات الدقيقة اللازمة للتعبير عن دقائق العلوم الطبيعية، بينما كانت العربية هي “أصل” معظم تلك العلوم، عندما كانت ذات حمولة معرفية ضخمة وحيوية ونفاذ.

كان من المؤكد أن آلاف الكلمات العربية اندثرت حتى من القواميس، خلال وعبر قرون الانحطاط الثقافي والمعرفي، وأن اللغة العربية منذ فجرها ظلت تعير المفردات للغات الأخرى وتستعير منها، فلا عذر للناطقين بها لاستعارة مفردات لغة الحديث اليومي من ألسنة الغير.

الشاهد هو أنه لا يضير لغة أن تستعير مفرداتٍ من لغات أخرى حية، فقد نهضت البشرية مع تبادل المنافع والمعارف، وأقوى ما يميز الكائن البشري عن الكائنات الحية الأخرى ليس كونه “ناطقا”، بل استعداده وقدرته على التفاعل والتواصل مع بني جنسه، ولا يعيب العرب والعربية في شيء أن يتبنّوا مفردات مثل: جاكيت وإتيكيت وسينما وتلفزيون و”كرواسان” وصالون و”بروتوكول”، ولكن البأس كل البأس هو أن يقول العربي “ميرسي” بدلا من شكرا، وكاش بدلا من نقدا، وموديل بدلا من طراز، وكورس بدلا من دورة، وبوليس بدلا من شرطة، وبرافو بدلا من أحسنت، ويتبادل التحية ب”هاي وباي”.
الجائحة التي تتعرض لها اللغة العربية بدخول أجسام غريبة في تركيباتها، منشؤها مركب نقص لدى بعض أشباه المتعلمين الميالين إلى حشو الكلام بمفردات إنجليزية أو فرنسية، عند تبادل الحديث الشفاهي في موضوعات ظلت مطروقة عبر القرون، لأنها تتعلق بأبسط أمور الحياة اليومية، وإذا كان من المؤكد أن آلاف الكلمات العربية اندثرت حتى من القواميس، خلال وعبر قرون الانحطاط الثقافي والمعرفي، وأن اللغة العربية منذ فجرها ظلت تعير المفردات للغات الأخرى وتستعير منها، فلا عذر للناطقين بها لاستعارة مفردات لغة الحديث اليومي من ألسنة الغير.
كما هي أداة الاتصال والتواصل الأكثر أهمية بين الناس، فاللغة أيضا ماعون ووعاء هوية الناطقين بها، ولا يوجد لأي لغة سادن وحارس مركزي، ولا ينبغي حسبان مجمع اللغة العربية حارسا أوحد للعربية، ولطالما طرح المجمع مئات الكلمات تعريبا لكلمات شائعة مستوردة من لغات أخرى دون أن تجد الذيوع (ومثال على هذا أن المجمع أسمى السينما دار الخيالة ولم تفارق التسمية أضابير المجمع). أعني أن الحفاظ على معمار وبنيان وهيكل اللغة العربية مسؤولية جماعية؛ وكل عربي يغرف من معين لغات أخرى كتابة أو مشافهة في ثنايا الحديث بالعربية، يساهم من حيث يدري أو لا يدري في تلغيم لغة أهله، ويكون بهذا خارجا عن “مِلَّة” قومه اللغوية وخائنا لها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...