لا تكن على صواب طوال الوقت

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

لا تكن على صواب طوال الوقت

إن تحقيق الصواب دائماً قد يؤدي إلى عواقب سلبية، فالتعامل السليم مع الأخطاء يمكن أن يكون أكثر فعالية. يجب أن يكون الفرد مستعدًا لتقبل نفسه الناقصة والتعامل مع الحياة بشكل أكثر واقعية. في هذا المقال، سنتناول أهمية عدم الحاجة إلى أن يكون الإنسان على صواب دائماً، مستعرضين آراء العلماء والنفسيين حول هذا الموضوع.

الفهم النفسي وتأثير الأخطاء والتفاعل معها

ولعلك سترفع حاجبك مستنكراً فلسفتي الزائدة، وأنت تؤكد كونها نصيحة جوفاء، إذ إنها حقيقة واقعة، وأنه كان من الأجدر بي أن أنصح الناس بفعل الصواب، إذ إنهم -ودون نصيحتي تلك- سيفعلون الشيء الخاطئ!

وهذا يا صاحبي، أبعد موضع من مربط فرسي، فمأساة كثير من الناس، إذا فتشت في النفوس جيداً، ليست في أنهم يفعلون الشيء الخاطئ وكان عليهم فعل الصواب، وإنما في أنهم لا يتعاملون مع قرارتهم الخاطئة بشكل سليم.

هوس فعل الصواب دائما، يُسلم غير قليل منا إلى أحد شيئين، وربما كليهما؛ الأول نقد ذاتي عنيف وقاس للنفس، وقد يصل إلى تكوين الواحد منا صورة عن نفسه لا تدعم ثقته في مشوار حياته؛ والثاني محاولة إخفاء العيوب والأخطاء ومداراة الناس، وعيش حياة مصطنعة، مضيئة من الخارج بيد أن باطنها مهزوم. وعليه، فإن نصيحتي بعدم فعل الصواب دائماً هي نصيحة بأن تدرك وتعي حقيقة الأشياء، ومن ثم تتبنى فلسفة قادرة على مدِّك بالقوة والحكمة الكافيتين لتمضي في الحياة ثابتاً، مدركاً أن للخطأ فوائده، وللعثرة قيمتها، وللتجربة ثمنها.

بعد أبحاث استمرت لعقود في تتبع أفكار الناس ومعتقداتهم، وبعد سنين قضاها متنقلاً بين مدارس علم النفس، وبعد مُضي أكثر من نصف قرن على طرح نظريته في العلاج النفسي؛ أكد الدكتور “ألبرت إليس”، أحد أهم علماء النفس في القرن الماضي، أنه وبعدما فطن أن مآسي الناس في الحياة تنبع من أفكارهم، وجد أن عليهم إن أرادوا علاج نفوسهم أن يعالجوا ما في أذهانهم أولاً، مؤكداً أن ثلث الأفكار التي تحاصر الإنسان وتجعله تعيساً بائساً تتمحور حول فكرة “يجب أن أكون على صواب وإلا فحياتي ستكون عبارة عن مأساة”! لافتاً النظر إلى أن الشخص العاقل، المتزن، السليم، يجتهد في أن يكون على صواب، ويحزن حينما يقع في الخطأ، لكنه أبداً لا يطلب استحقاقاً بأن يكون على صواب طوال الوقت، ولا يرى العالم بائساً حين يقع في الخطأ، لا يذبح نفسه حين تزل قدمه، أو يطيش سهم تفكيره.

الشخص المتزن لا يصنف نفسه بمعايير كلية، هو شخص يجتهد في فعل الصواب لكن قدمه قد تنزلق، وحينها لا يقوم بتقييم نفسه من منطلق “أنا سيئ أو جيد”، وإنما “هذا الفعل جيد أو سيئ”.. وعليه، هو يندم ويحزن، لكنه يهبُّ من فوره لإصلاح الخطأ الذي وقع فيه، دون أن يعمم هذا السوء على نفسه بالكلية. وهذا كلام قد تراه بديهياً، لكنه للأسف غير واضح في أذهان كثير من الناس.

تأثير الثقافة والديانة – وأهمية التجربة والتطور

وبالرغم من أن الإسلام صنع معياراً لتفاضل الناس فيما بينهم، قائم على تصحيح الأخطاء وتعديل المسار، أو ما سماه “التوبة”، مع التأكيد على أن الطهر الكامل والصواب المستمر أمر مستحيل، بل إنه لو تحقق لانتفى أصلاً سبب خلق الإنسان، وأن المسلم إذا لم يخطئ، ويقع، ويذنب، فالبديل هنا ببساطة أن يستبدل الله سبحانه وتعالى به صنفاً آخر غير مثالي، ليس على صواب طوال الوقت، صنفاً يُذنب ويستغفر باستمرار!. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم غيركم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم”.

هذه الرسالة تعني ببساطة أن تتقبل نفسك الناقصة، مع بذل جهدك في تحسينها، أن تنشغل بالخطوة القادمة بعد الاستفادة من الخطوة الماضية دون الوقوف عندها، ألّا تحبس نفسك في فكرة خاطئة نابعة من طهر كاذب، ومثالية غير متحققة، وغاية مستحيلة.

الحياة والناس ونفسك لن تستطيع أن تتعامل معهم بشروطك الشخصية، أنت لست في مطعم وتنتظر وجبتك المنتقاة، للقدر قواعده التي تمضي علينا، وعلينا أن نتعاطى مع هذه القواعد دون أن نعارضها، أو نشتكي منها. وأهم هذه القواعد، ألّا تكون على صواب طوال الوقت! أن تتقبل نفسك دون شروط.. ولا يعني هذا أن تدللها وتسمح لها أن تستمرئ الخطأ بحجة أننا مخطئون، بل أن يكون منك -كما قلنا- ندم وتوبة؛ وضيق الصدر حالَ الخطأ أمر لا بد منه، وهو لوم وتقريع يخوّف الضمير من سوء السلوك، لكنه لا يصنع للروح مشنقة، ولا يسجن النفس في سجن العزلة والانكسار.

لقد بحثت كثيراً في كتب المفكرين، والفلاسفة، بل وفي نظم التربية والتعليم، فلم أرَ منهجاً واحداً يحث الناس على الخطأ إلا الإسلام!

لا، ليس في العبارة ثمة تضليل.. فالإسلام يحثك على الاجتهاد، والتطور، والعمل، وشق طرق جديدة، واكتشاف أسرار الحياة، مطَمْئناً من يفعل ذلك أن الخطأ هنا محمود وله أجر، شريطة أن تجتهد بصدق ودراية.

نعم، ستأخذا أجراً على كل خطأ غير مقصود كان وقوعك فيه نتيجة حركة غير موفقة، لأن الحياة ببساطة لا تتقدم إلا بهؤلاء الذين يطرقون الأبواب المغلقة، ويمضون في الطرق الموحشة، ويحاولون اكتشاف جديدٍ يعمرون به الأرض، وينفعون به العباد.. ولن يحدث هذا إلا بالتجربة، والتجربة قد يأتي منها الخطأ كما يأتي الصواب. وغالب مناهج التربية لا تتسامح مع الخطأ، وأقصى ما تستطيع تقديمه للمخطئ هو تفهُّم خطئِه، غير أن الإسلام يحترم الحركة، ويقدِّر الاجتهاد ويعطي لصاحبه أجر اجتهاده الخاطئ!

لا أظن ما قلتُه جديداً كمعلومة، لكنه غريب في نفوسنا، فنحن للأسف لا يهمنا شيء مثل أن نظهر على صواب دائما، أن نبدو على ما يرام طوال الوقت. وعليه، فإننا نُضيِّق واسعاً، ونمضي بحذر، ونبكي في لوعة، ونجلد ذواتنا، ونعيش تعساء؛ ولطالما اهتزت ثقة الواحد منا بنفسه لأنه عاش سجين فكرة خاطئة، وكثيراً ما وضعنا الأغلال في أعناقنا طواعية، وأسأنا الظن في أنفسنا وفي الناس، بل وفي رحمة الله وحكمته.. والحل لن يكون إلا بإعادة النظر في قناعاتنا، وأفكارنا، وفهم علاقتنا بأنفسنا.

فالله يا صاحبي يحبك ويثق بك رغم أخطائك.. فلماذا تسعى إلى أن تكون على صواب طوال الوقت؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...