لا راحة للموتى..
بقلم: إبراهيم عبد المجيد
| 6 يونيو, 2023
مقالات مشابهة
-
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب...
-
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ...
-
العالم الفكري للروائي عبد الرحمن منيف
الرمز في الشخصيات والزمان والمكان توثيق تاريخي...
-
فرية “النامي” وعملية غليلوت
الفرية التي جاء بها مشعل النامي على نساء غزة،...
-
هاريس ضدّ ترمب: ماذا أرى في الكرة البلورية؟
يتذكّر بوب وودورد Bob Woodword، الكاتب الصحفي...
-
مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر
تذكرت أنني اشتريت نسخة من مذكرات محمد فايق، وزير...
مقالات منوعة
بقلم: إبراهيم عبد المجيد
| 6 يونيو, 2023
لا راحة للموتى..
في مصر كثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الحديث فيها يطول، وكل يوم يتباعد الأمل في التغيير أو الإصلاح؛ لكني سأبتعد عن هذا كله وأكتب عن أمر صار متداولا الحديثُ فيه حقا، لكن غير المتداول هو معنى الإثم أو الخطيئة.. كل حكايات البلاد التي عاشت على الإثم ضاعت، سدوم وعمورة وطيبة اليونانية وأتلانتس حكايات أسطورية لكن المعنى مما جرى لها يتجاوز الأزمان، والعبرة منها لا تضيع من عقل كل إنسان.
الأخطاء يمكن إصلاحها، لكن الخطايا لا تضيع من الفضاء، وتظل تطارد أهل الأرض؛ والناس يمكن أن يرتكبوا الخطايا ويجدوا الطريق للغفران، لكن الخطايا التي يرتكبها من بيدهم الأمر لا يأتي فيها من الكون الغفران، وبالطبع من الله، فأمامهم عشرات من الطرق الأخرى.. حقا يدفع الناس الثمن، لكن متى كانت النجاة طريقا مفتوحا لمرتكبي الخطايا الكبريات؟.
لم يفهم أحد أن المقابر التي يرونها قريبة من المدن جاءت متسقة مع حجم المدن وسكانها، وأن من أراد توسيع المدن يمكنه الذهاب إلى الصحراء ليبني مدنا جديدة دون اغتيال ما أقره القدماء.
الموضوع الذي أتحدث عنه هنا هو الهجوم الكبير على مقابر الموتى من أجل بناء الطرق والمحاور والكباري للمرور!. نبش القبور خطيئة فما بالك حين يتم ذلك وفق خطة لا نعرف ما وراءها، ولا مدى أهمية المحاور والكباري ليكون مرورها بين المقابر هو الطريق الوحيد!. مصر متسعة جدا لأيّ مشروعات، لكن للأسف، منذ السبعينات وحكامها يفضلون إقامة مشاريعهم وسط أو على أطراف مدنها؛ كان أكبر الأخطاء ردم مساحات كبيرة من البحيرات الطبيعية، من أجل بناء مصانع وقرى سياحية ومراكز تجارية ومقاهٍ، وغير ذلك من الإسمنت والأحجار؛ بينما كان يمكن بناء مدن كاملة في الصحراء تحيطها الخضرة وفيها مصانع صغيرة للشباب مع ترك التوازن البيئي قائما. ومع الزمن انتقل المسؤولون إلى الشواطئ، فتم إخفاء شاطئ الإسكندرية في أطول مسافة من حي الشاطبي إلى حي المنتزه، وصار الشاطئ جراجات للسيارات وكافتيريات وأسوار؛ ومثل هذا التدخل البيئي الخاطئ حدث أيضا في مدينة بورسعيد وحدث للنيل في القاهرة كذلك، ورافقه أكبر تعدٍ على الخضرة وقطع الأشجار.. لا أحد يدرك معنى الإخلال بالتوازن البيئي في تغير مناخ البلاد.
نترك هذه الأخطاء التي كانت وما زالت الطريق السهل للمسؤولين، ونجد أنفسنا أمام الخطايا؛ فبعد أن أغار المسؤولون على مظاهر الطبيعة الجغرافية على سطح الأرض، ذهبوا إلى المقابر تحتها!. لم يفهم أحد أن المقابر التي يرونها قريبة من المدن جاءت متسقة مع حجم المدن وسكانها، وأن من أراد توسيع المدن يمكنه الذهاب إلى الصحراء ليبني مدنا جديدة دون اغتيال ما أقره القدماء. شمل الاعتداء على المقابر جَبّانات كثيرة لعظماء النهضة المصرية منذ مئات السنين، منهم علماء ومفكرون ورواد النهضة في العصر الحديث، ومنهم شيوخ وأدباء وشعراء، هؤلاء الذين بدونهم لم يكن لمصر أن تخرج من عباءة الجهل التي أرادها لها من استعمرها ولا من عباءة الاضطهاد. رأينا المحور أو الكوبري يمر بالمدافن، وكاد يتم هدم مقبرة طه حسين، الذي لا يحتاج إلى أحاديث عنه كواحد من صناع النهضة في التعليم المصري، فضلا عن كتاباته الرائعة في التاريخ والأدب التي علمت الأجيال؛ وعندما قامت الدنيا على السوشيال ميديا رافضة ما يتم، وتقدمت فرنسا بطلبها لنقل رفاته إلى مقابر العظماء هناك، تراجعت الدولة، وعبر الكوبري فوق المقبرة التي صار مشهدها يدعو للرثاء تحت الكوبري، لما جرى عليها من إهمال وتحطيم.
محور جديد يسمونه طريق الحضارات يهدد بإزالة ألفين وسبعمائة مقبرة، بينها عديد من المقابر لشخصيات عظيمة من صناع النهضة، مثل الشاعر محمود سامي البارودي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وأحمد عرابي، وأحمد شوقي، وابن ورش صاحب قراءة ورش القرآنية، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وبعض كبار الممثلين والفنانين مثل صلاح ذو الفقار، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وأسمهان، وغيرهم؛ كما يلحق التهديد الكثير من المباني ذات القيمة الأثرية والفنية العالية. ولقد تقدم المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ أيام بدعوى عاجلة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، تطالب بوقف أعمال إزالة وهدم المقابر والمباني الأثرية والتراثية ذات الطابع المعماري المميز، في منطقة “جبانات القاهرة التاريخية”، وتحديد حرم لها فلا يتم الاعتداء عليها؛ وتأتي الدعوى التي تقدم بها نيابة عن المركز بعض المتخصصين في التراث، من بينهم الدكتورة جليلة القاضي، ومونيكا حنا، وسالي سليمان، وطارق المري، على خلفية أعمال الإزالة بمنطقة جبانات القاهرة التاريخية، التي تضم مقابر الإمام الشافعي، والسيدة نفيسة، بحي الخليفة جنوب القاهرة، والتي يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، وتم تخصيصها في القرن التاسع عشر لدفن كبار موظفي وأعيان الدولة.
هناك مقابر عادية، وهناك مقابر جدرانها تحف فنية في الخط أو الرسم يُقال أنها تُباع سرا، وهناك من يشكو من الناس العاديين أنه حتى لم يتم إبلاغه بهدم مقبرة عائلته.
اختصمت الدعوى كلا من رئيس مجلس الوزراء، ووزيري الآثار والإسكان، ورئيس مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار، ومحافظ القاهرة، ورئيس هيئة التنمية الحضرية، ورئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، كل بصفته؛ وذلك بعد أن تقدم المركز بأربع وعشرين مكاتبة إلى جميع هذه الجهات، على مدار أسبوعين، للمطالبة بوقف أعمال الهدم. أيّ عاقل يتساءل: ما معنى الطرق والمحاور؟. وماذا ستفيد في الاقتصاد كما يقولون؟. وهل يجد المستثمرون مشقة في التنقل بين أطراف مدينة مثل القاهرة لتشملها كل هذه الكباري؟. ولماذا تتجه الكباري إلى المقابر حيث الموتي يستقرون بسلام منذ مئات السنين؟. لماذا لا يذهب المستثمرون إلى الصحراء ليقيموا مصانعهم ومزارعهم فيها إذا أرادوا؟.. المحزن أن كل الأجيال منذ عشرات السنين تعلمت من هؤلاء الموتى، وأنهم هم الذين بنوا بلادنا، فهل هذا جزاؤهم من الذين يديرون أمور البلاد؟. لقد أصدرت وزارة الأوقاف منشورا يحرم الاعتداء على مقابر الموتى، ثم تم حذف المنشور من السوشيال ميديا. وحتى لو تجاوزنا وزراة الأوقاف، فكيف لا يرى من يديرون البلاد في هدم المقابر ذنبا أو خطيئة تحل بها اللعنة على البلاد؟!. نقرأ ونرى ونعيش مايعانيه الناس في حياتهم، فلماذا لايستقرون في سلام حتى بعد موتهم؟. هل سكوت الناس عن ظروف الحياة الصعبة يعني أن نتفرغ للأموات أيضا فنقلقهم، وننسى أننا نُغضب الله سبحانه وتعالى؟. لم أقرأ فيما قرأت من صراع من أجل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عن شيء عمله المستعمر لإقلاق الموتى، بل كان العكس، فكل عظماء النهضة بُنيت مقابرهم خلال عهود الاستعمار المختلفة.
هناك مقابر عادية، وهناك مقابر جدرانها تحف فنية في الخط أو الرسم يُقال أنها تُباع سرا، وهناك من يشكو من الناس العاديين أنه حتى لم يتم إبلاغه بهدم مقبرة عائلته. مقابر المشاهير تتصدر المشهد، وليس هذا تقليلا من شأن مقابر الناس العاديين، فكلها أرواح نامت في سلام في بلادها بعد أن رفعت من شأنها؛ لكن جاء اليوم العجيب فصارت لا تنام في سلام من أجل طرق وكَبَارٍ لها ألف مكان آخر إذا أرادوا.
هل هناك ذنب آخر أكبر من ذنب العبث بالموتى؟. وكيف يتوقع أحد أن تتقدم بلاد مع هذه الخطيئة التي لا ترضى عنها الأرض ولا ترضى السماء؟.. أي لعنة تنتظر البلاد؟!.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت
منذ طوفان الأقصى، ومواقع التواصل تحتفي بأخبار إبداعات أهل غزة، ومبادراتهم التي تنهض وسط الإبادة والحصار، وتطرق جدران الخزان لتبعث برسائل التحدي، بهدف إظهار تمردهم على الواقع الصعب الذي فرضه الاحتلال، وإعطاء الأمل للعالم في أن هذه الثلة الصابرة المحاصَرة المرابطة قادرة...
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب النوبي الراحل "إدريس علي" صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية "بلال"، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة "إدريس" نفسه. "بلال" باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة "التهميش"، أحب...
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ...
0 تعليق