لا متعة في قراءة التاريخ

بواسطة | فبراير 4, 2024

بواسطة | فبراير 4, 2024

لا متعة في قراءة التاريخ

تحمل دراسة التاريخ معانٍ عميقة، فهي ليست مجرد سرد لأحداث الماضي، بل تشكل استكشافًا وتحليلاً لأسباب الأحداث وتأثيراتها. في هذا المقال، سنستعرض فوائد دراسة التاريخ وكيف يمكن أن تؤثر إيجابيًا على حياة الأفراد والمجتمعات.

تحليل الحوادث وبناء قاعدة لحياة أفضل

يقول ابن خلدون عن التاريخ: «وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق».

ما زالت النظرة للتاريخ ضيقة وقاصرة، إذ تعتبره مجرد سرد ممتع لأحداث الماضي، دون الخوض في أسباب حدوث هذه الأحداث والنتائج المترتبة عليها، ويكثر لدى البعض الاهتمام بالأساطير والغرائب والنوادر بحثاً عن الدهشة والكوميديا والمتعة والإثارة.. لا أعلم ما الفائدة من التاريخ دون الاستفادة من أحداثه الحقيقية، والتعرف على ظروفها وملابساتها، والاقتداء بها في الحياة الحاضرة، سواء كان ذلك في حياة الأفراد أم حياة الأمم والشعوب.

ويرى ابن الأثير أن دراسة التاريخ لا تعني  سرد الروايات التاريخية للتسلية والسمر، وإنما تعني أشياء أخرى. وقد استعرض ابن الأثير تلك الفوائد، ومنها ما يعود على الحكام والملوك من فائدة كبيرة عند سماعهم بالتواريخ القديمة، وكيف كانت نهاية من اتبع الهوى وأفسد، وكيف ذهبت دولته، في حين صلح من اتبع أسلوبًا حسنًا في حكم بلاده؛ بالإضافة إلى معرفتهم بكيفية تسيير أمر البلاد، وتزويدهم بالحنكة السياسية والدبلوماسية، التي تعينهم في التخلص من المشكلات التي تعترض طريقهم.

ومن فوائد دراسة التاريخ ما يعود على الأفراد في التعرف على الآراء الصائبة عن طريق تحصيل تجارب السابقين، ونقل هذه المعارف والتجارب إلى بقية أفراد المجتمع فتتم الاستفادة بها. ومنها ما يكون مرتبطاً بمعرفة أحوال الماضين، وتواريخ السلف، التي تجعل القارئ كأنه يعيش معهم؛ وهذا فيه إرضاء للذات البشرية التي تُحب البقاء، «فإذا طالعها – أي كتب التاريخ- فكأنه عاصرهم، وإذا علمها فكأنه حاضرهم»؛ ولا ننسى ما تقوم به القراءات التاريخية للحوادث من تقويم للأخلاق، «كالتخلق بالصبر والتأني، وهما من محاسن الأخلاق». لذلك تعتبر دراسة التاريخ في رأي ابن الأثير وسيلة لتربية النفس وتقويم الأخلاقيات لدى القارئ.

ويذكر المؤرخ ابن طباطبا أن دراسة التاريخ تخلق في القارئ الشجاعة والحماسة والزهد وعلو الهمة، ويرى أيضًا أنها توقد العقل وتشحذ المواهب، وتنير الطريق أمام الدارسين، بالإضافة إلى تعليمهم الفصاحة والبلاغة.

أما المؤرخ الكافيجي، المتوفى عام 879هـ، فيقول عن التاريخ: «فإن من جملة العلوم النافعة في المبدأ والمعاد وما بينهما علم التاريخ، الذي فوائده وغرائبه لا تُعد ولا تُحصى، وهو بحر الدُرر والمُرجان، لا يحيط بمنافعه نطاق التحديد والتبيان، وفيه عجائب الملوك والملكوت، وفيه إيصال إلى جناب الحق ذي العظمة والجبروت».

ويرى هرنشو، وهو من مؤرخي العصور الحديثة، أن دراسة التاريخ تنشط العقل وتوسع المدارك، وأن دراسة التاريخ – دون سواها- أصلح الدراسات لتعويد الإنسان واكتسابه لفضائل الخاصة والعامة. ويرى هرنشو أيضًا أن دراسة التاريخ تلعب دورًا في تكوين شخصية الأجيال وصناعتها؛ فعن طريق التاريخ يتم غرس كثير من المبادئ السياسية والقومية في نفوس الطلاب، ويشيع القول إن «التاريخ هو مدرسة السياسة»، وهو قول صادق إلى حد كبير، وإنه بدون الحصول على قدر من التاريخ لا يمكن للفرد أن يساير الشؤون السياسية، أو يصدر حكمًا عادلًا على مجريات الأمور السياسية.

لذلك يتجلى لنا أن النظر التحليلي في حوادث التاريخ، القائم على تحليل الحوادث واستنباط الفوائد منها، يشكل – في رأي الكثيرين- نواة لبناء الطريقة لحياة أفضل، ويصنع التقاليد القويمة، ويكون أساساً لرقي المجتمعات.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...