لماذا تحريم تجريم الخمر؟

بقلم: جعفر عباس

| 31 يناير, 2024

بقلم: جعفر عباس

| 31 يناير, 2024

لماذا تحريم تجريم الخمر؟

تتعامل هذه المقالة مع تناقضات السياسات الصحية العالمية، حيث تركز على جمعية الصحة العالمية وتحدياتها، بالإضافة إلى استعراض لبعض التناقضات في المجال الصحي والاقتصادي.

تناقضات السياسات الصحية العالمية

جمعية الصحة العالمية، هي أعلى هيئة لوضع السياسات الصحية في العالم، وتتألف من وزراء صحة الدول الـ194، الأعضاء في هيئة الصحة العالمية. ويجتمع أعضاء الجمعية في موقع المقر الرئيس للهيئة في قصر الأمم في جنيف في سويسرا، في شهر مايو من كل عام.

في عام 2021 عقدت الجمعية العمومية للهيئة اجتماعها الدوري في جنيف بسويسرا، وكان البند الرئيس في الاجتماع، توصية بأن تعمل الدول الأعضاء لحث الأمهات على التوقف عن إرضاع أطفالهن الألبان المجففة، وذلك في سياق حملة منظمة لتعريف النساء بأهمية الرضاعة الطبيعية، وعلى وجه خاص في الدول الفقيرة.

عارض الوفد الأمريكي ذلك المقترح بقوة، وهدد جمهورية إكوادور التي طرحته بمنع المعونات عنها، وبأسلوب الأم التي قالت لمُعلمة ابنتها: إذا استحقت بنتي العقاب، اضربي البنت التي تجلس بالقرب منها، وسترعوي بنتي، ولن تأتي أمرا يستوجب العقاب مرة أخرى! وفهمت بعض الدول “الرسالة”، وأحجم ممثلوها عن مناصرة الاقتراح علنا، ولكن فاز الاقتراح بأغلبية هزيلة، بعد أن رمت روسيا بثقلها وراءه، ولكن بعد “تخفيفه” بسحب نص يدعو لتقديم العون الفني للدول الفقيرة، لتتمكن من تنظيم حملات تحث على تفادي الألبان المجففة.

قبل أعوام قضت محكمة بتغريم شركة فيليب موريس، أكبر منتج للتبغ في العالم، ثلاثة بلايين دولار، يتم منحها لريتشارد بويكِن الذي رفع دعوى على الشركة، لأن منتجاتها سببت له أضرارا صحية، جعلته عاجزا عن العمل، وخاضعا للرعاية الطبية على مدى أكثر من ثلاثين سنة. وبلغ حجم التعويضات التي فاز بها العديد من الولايات الأمريكية من شركات التبغ حتى يومنا هذا 246 بليون دولار، بعد أن أثبتت للمحاكم أنها (الولايات) أنفقت أموالا وموارد هائلة لتقديم الخدمات الطبية لضحايا التدخين.

والشاهد هو أن الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة، تجد الحماية والرعاية من الحكومة الأمريكية، طالما أن عائداتها ضخمة، ولو كان ذلك على حساب وسلامة ملايين الناس، داخل وخارج الأراضي الأمريكية. ويكفي على ذلك دليلا أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة تبارك بيع السلاح للأفراد، برغم أن الولايات المتحدة هي أكبر مسرح لجرائم السلاح في العالم؛ كما يأتي في هذا السياق أيضا موقف الوفد الأمريكي المشين في الاجتماع العام لهيئة الصحة العالمية، دفاعا عن شركات إنتاج الألبان المجففة، على حساب صحة أجيال بلايين البشر.

طوال أكثر من نصف قرن، ظلت الحكومات الأمريكية متعاقبة ترفض مقترح وضع تحذير على منتجات التبغ، يفيد بأنها ضارة بصحة الإنسان، وكان ذلك لحماية منتجي “التبغ الفرجيني الفاخر”، الذي تتباهى أمريكا بإنتاجه (كثيرون في مختلف القارات، لا يدركون كم ناضل الأمريكي رالف نادر من أجل حماية المستهلكين المستضعفين، وهو يخوض عدة انتخابات رئاسية أمريكية، وهو مدرك تماما أنه لن يفوز حتى لو شاب الغراب، ولكنه نجح في تحويل حملاته الانتخابية إلى معارك ضارية ضد الشركات الصناعية الاحتكارية الكبرى ومجموعات الضغط، ونجح بالتالي في تحريك منظمات المجتمع المدني لتعمل على حماية المستهلكين).

تفيد مضابط الشرطة والقضاء في جميع البلدان أن تعاطي الكحول يتسبب في 70% من حوادث المرور القاتلة، وأن شارب الخمر أكثر ميلا لجرائم العنف من متعاطي المخدرات، وقد توقفت معظم الدول الغربية التي يتفشى فيها تعاطي المخدرات، عن تجريم تعاطي الحشيش  (cannabis) بمسمياته وأصنافه المختلفة، وصارت تلاحق فقط من يتعاطون ويروجون الكوكايين والهيرويين وما يسمى بالمخدرات القوية، بل إن بلدا مثل هولندا سمحت لبعض المنافذ ببيع الماريوانا من باب “حنانيك بعض الشر أهون من بعض”، وجففت السوق من المخدرات القوية.

مدمنو المخدرات لا يرتكبون الجرائم – السرقات عادةً- في غالب الأحوال، إلا من أجل المال لشراء المزيد من المخدرات، بينما شارب الكحول قد يرتكب جرما كبيرا بحق شخص لا يعرفه لأتفه الأسباب، أو بدون سبب؛ وفي جميع الدول التي يُباح  فيها بيع الكحول فإن نحو 40% من نزلاء السجون، فعلوا أمورا تخالف القانون وهم في حالة سكر. ولست أزعم أن المخدرات “بنت ناس” مقارنة بالكحول، ولكنني اعتقد أنه لو كان قلب أي جهة حكومية على عافية الإنسان، لحظيت الخمور بنفس درجة “التشهير والتكفير” والتجريم التي تحظى بها المخدرات.

وفوق كل ذلك، فمن الثابت علميا أن تعاطي الكحول يسبب كوكتيلا من السرطانات وأمراض القلب والشرايين، ويفاقم مرض السكري. ولكن، هل هناك زجاجة خمر واحدة في أي مكان في العالم، عليها تحذير (كما علب التبغ) بأن الكحول ضارة بالصحة؟ لا.. ولماذا لا؟ لأن الكحول تجارة مربحة وأكبر منتجيها الدول التي لديها العضلات الاقتصادية والعسكرية، التي تجعلها وصية على المجتمع الدولي. ولو توقف إنتاج وتسويق الويسكي في بريطانيا، والنبيذ في فرنسا، والبيرة في ألمانيا، والفودكا في روسيا، لخسرت اقتصاداتها البلايين سنويا وفقد الملايين من أهلها وظائفهم، ومن ثم فإن التحذير من خطر الكحول على الصحة والأمن صار أمرا متروكا فقط للأطباء ورجال الشرطة.

 ومن ثم يصبح مفهوما أن تعارض الولايات المتحدة أي حملة منظمة قد تؤدي إلى العزوف عن إرضاع الأطفال الألبان المجففة، وأن تحمل علب التبغ عبارات تفيد بأنها “قاتلة”، دون أن يمنعها قانون من ممارسة القتل، وأن ترعى شركات إنتاج الخمور الأفلام الناجحة والفاشلة، ماليا، نظير أن يتعاطى الممثلون منتجاتها في مشاهد مختلفة.

في عالم كهذا تصبح السلامة مسؤولية فردية، وأنت حر في أن تُقدّم لأطفالك لبن معيزو أو ماميزو أو زيزو، ولك القرار لتحكم ما إذا كان “الكاس” فعلا “يوزن الراس” أم هو فأس يهتك الكبد والبنكرياس.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...