لماذا علينا دراسة تاريخ الخلافة الراشدة وسيرة خلفائها؟

بواسطة | أغسطس 23, 2023

بواسطة | أغسطس 23, 2023

لماذا علينا دراسة تاريخ الخلافة الراشدة وسيرة خلفائها؟

ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك أمته من بعده، دون أن يحدّد لها النموذج العملي التطبيقي الواقعي لأحكام الإسلام؛ هذا النموذج الذي يمثل أفضل صورة للتعامل المنهجي مع أحكام التشريع التي استقرت، والدين الذين الذي اكتمل قبيل رحيله صلى الله عليه وسلم.
لذا كانت فترة الخلافة الراشدة هي الامتداد الطبيعي لسيرة النبي صلى الله وسلم؛ بل إنها تمثل اكتمال الصورة في الإجابة عن سؤال كبير وهو؛ كيف نطبق هذا المنهج الإسلامي عند غيابه صلى الله عليه وسلم وتوقُّف التشريع؟ وما هي ثمرة التربية النبوية التي تتجلى في غيابه على مستوى الدولة والمجتمع؟.
ومن هنا جاء الأمر النبوي بترسيخ النموذج وتسميته “سُنَّة الخلفاء الراشدين”، والأمر بالتمسك به وانتهاجه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث العرباض بن سارية: “فإنه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة”.

كان الوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يرسم مسار الأحداث إقرارا وتصويبا وتعديلا، وكان الناس ينتظرون التشريع أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ليتّبعوه ويمتثلوه

سمات الخلافة الراشدة
لقد اتسمت الخلافة الراشدة بسمات عديدة، تجعل من الأهمية بمكان على المسلم الحريص على معرفة دينه، لا سيما في قضايا الحكم والإدارة، أن يدرس تفاصيل سيرة الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين؛ ومن أهم هذه السمات:
أولا: انقطاع الوحي
لقد كان الوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يرسم مسار الأحداث إقرارا وتصويبا وتعديلا، وكان الناس ينتظرون التشريع أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ليتّبعوه ويمتثلوه، وبوفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يفتقده الناس هو الوحي الذي كان يتنزل؛ وقد روى ابن ماجه بسند صحيح عن أنس بن مالك: “قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعُمرَ: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، قال: فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله؛ قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء؛ قال: فَهيَّجَتْهما على البكاء فجعلا يبكيان معها”.
إن من أهم ما تتسم به مرحلة الخلافة الراشدة انقطاع الوحي، وانقطاع الوحي كان تحديا كبيرا يزجّ الأمة كلها في غمار التطبيق العملي والتعامل الاستنباطي والتنزيل المنهجي للوحي -الذي استقر قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا وسنّة- في تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتعامل مع المستجدات الطارئة في ضوء فهم الوحي والاستنباط منه، فكانت الخلافة الراشدة هي النموذج الأمثل الذي يحتذيه من جاء بعده في منهجية التعامل مع الوحي في ظل غياب المشرّع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: خلافة وراشدة ومهدية وعلى منهاج النبوّة
لقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه للخلافة الراشدة وأمره باتباع طريقتها ونهجها أربع صفات رئيسة، وهي أنها خلافة وأنها راشدة وأنها مهدية وأنها على منهج النبوّة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه الإمام أحمد بسند حسن عن النعمان بن بشير: ” تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون مُلْكا عاضًّا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون مُلْكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نُبُوَّة؛ ثم سكت”
ففي هذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الخلافة الراشدة إنما هي على منهاج النبوة، وهذا ترسيخ للنموذج لأجل انتهاجه وسلوك طريقته، واللافت أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمر بالعضّ بالنواجذ على سنّة الخلفاء الراشدين، لم يذكر أسماءهم وإنما بيّن وصفهم الوظيفي وهو أنهم خلفاء، وعندما بيّن أن فترتهم هي على منهاج النبوّة عبّر عنها بوصف الخلافة، أي أن النقطة الرئيسة ــ ولكنها ليست الوحيدة ــ  في هذا النموذج هي قضية الحكم ونظامه، فنظام الحكم الذي تعدّدت طرق الوصول إليه في الخلافة الراشدة، والطرق العامة في نظام الحكم، وأشكال تعامل الحاكم مع الرعيّة؛ هو النموذج الذي يؤسس للرشد السياسي في الأمة، وأشد ما تحتاجه الأمة في واقعها على مرّ الأزمان هو الرشد السياسي، وفي ظلّ التيه وغياب الرؤية يأتي النموذج الذي اتسم بالهداية، فهو نموذج في نظام الحكم وسياساته يتسم بالرشد والهداية، وهو أشدّ ما تحتاجه الأمة في أوضاعها وأزمانها المختلفة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بسند حسن عن سفينه: “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلْك بعد ذلك”

ثالثا: تنوع التحديات
من أهم ما اتسمت به الخلافة الراشدة تنوع التحديات في مراحلها المختلفة، فقد عاشت الدولة تحدي التمرد الداخلي على الدين الذي يمثل مرجعية الحكم والحياة، وكذلك تحدي اتساع رقعة الدولة وتكاثر الاحتياجات الإدارية والسياسية المتعلقة بالمجتمعات الجديدة، وتحدي التمرد الداخلي على السلطة الشرعية، وتحدي الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، وتحدي التنازع على السلطة، وتحدي الاغتيالات السياسية، وكل هذه التحديات تعيشها الأمة على مرّ تاريخها؛ فكان من الضروري أن يكون هناك نموذج راشد يؤسّس لمنهجية التعامل مع هذه التحديات المختلفة، ويُرجَع إليه عند الحاجة المتجددة.
رابعا: الاستهداف الممنهج
من أهم ما تتسم به الخلافة الراشدة هو أن السهام تتوجه إليها بطريقة متكاثرة وممنهجة من جهات عدة، فمن المستشرقين من أمثال توماس آرنولد وكايتاني ووليام ميور وبرنارد لويس وغيرهم تارة، ومن مبغضي أصحاب النبي والطاعنين فيهم تارة أخرى؛ وهذا الطعن في الخلفاء الراشدين وفترة الخلافة الراشدة، المراد منه هدم النموذج المرجعي الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجاح في هدم النموذج يعني هدم فكرة صلاحية الإسلام للتطبيق في الحياة السياسية والاجتماعية.
إن هذه السمات تؤكد ضرورة دراسة الخلافة الراشدة دراسة معرفية تحليلية استنباطية سننيّة؛ هذه الخلافة التي بيّن النبي صلى الله عليه وسلم إطارها الزمني، وهو ثلاثون سنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بسند حسن عن سفينه: “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلْك بعد ذلك” وعند حساب السنوات الثلاثين نجد أنها تشمل خمسة خلفاء، وهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين؛ فهم الخلفاء الراشدون، ولقد قال الحافظ ابن كثير (رحمه الله تعالى) في التدليل على أن الحسن بن علي هو خامس الخلفاء الراشدين: «والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في “دلائل النبوة”، من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا.. وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي». وهذه الدراسة هي التي تؤسّس لتعميم النموذج وتطبيقه في الأمة التي تتوق إلى الرشد السياسي والهداية في الحياة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...