لماذا لن تنسحب أميركا من المنطقة؟

بواسطة | يوليو 13, 2023

بواسطة | يوليو 13, 2023

لماذا لن تنسحب أميركا من المنطقة؟

قبل أسابيع أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن خطة لسحب بعضٍ من طائراتها المقاتلة الحديثة من منطقة الشرق الأوسط، لتستبدل بها أخرى قديمة وأقل كفاءة تعرف باسم طائرات A-10، وهي من جيل قديم لطائرات مقاتلة بدأ إنتاجه أوائل السبعينات من القرن الماضي، ولا تقارَن قدراته القتالية بالأجيال الحديثة من الطائرات المقاتلة.
قد يبدو الخبر عاديا، فالولايات المتحدة تقوم دوما بعمليات استبدال لمعداتها وقواتها وإعادة نشرها وتوزيعها عبر قواعدها العسكرية المنتشرة حول العالم. ولكن الأمر هذه المرة يبدو مختلفا لأنه لا يتعلق فقط بمجرد سحب طائرات حديثة وإحلال أخرى قديمة محلها، وهو أمر لا يخلو من دلالات، ولكن أيضا لأنه يأتي في إطار ما قيل إنه “خطة أميركية أوسع تدعو إلى الاحتفاظ بقوات بحرية وبرية محدودة في منطقة الشرق الأوسط”، حسبما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين.

ليس غريبا أنَّ الولايات المتحدة ما تزال تتمتع بوجود عسكري ثقيل في المنطقة، ويدل على ذلك أولا عدد الجنود البالغ أكثر من 30 ألف جندي موزعين بين عدد من القواعد العسكرية المتناثرة في دول المنطقة، سواء في الخليج العربي أو في العراق وسوريا وتركيا؛ كما أن قيادة الأسطول الخامس الأميركي ما تزال موجودة في البحرين

وقد أثار هذا الخبر أسئلة كثيرة حول خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط، وما إذا كانت هذه المنطقة لم تعد ذات أهمية إستراتيجية حقيقية لمصالح أميركا، خاصة وأن الطائرات التي تم سحبها سوف يتم إرسالها إلى مناطق نفوذ أخرى من أجل ردع الصين وروسيا، وذلك حسب ما جاء في تقرير “وول ستريت جورنال”. فهل تخطط الولايات المتحدة بالفعل للانسحاب من الشرق الأوسط؟ وهل بدأ العد التنازلي للوجود الأمريكي في المنطقة، والذي يمتد لأكثر من نصف قرن؟.
الحقيقة أن الولايات المتحدة لن تنسحب من الشرق الأوسط، ولا تخطط لذلك في المستقبل القريب؛ وذلك لعدة أسباب، أولها أن هذه المنطقة ما تزال تحظى بأهمية إستراتيجية كبرى للولايات المتحدة بسبب مصالحها الحيوية هناك، والتي يجري تلخيصها دوما في “مربع” المصالح، وأول هذه المصالح الحفاظ على استمرار تدفق النفط من المنطقة، التي تساهم بحوالي 30 بالمائة من الإنتاج العالمي للنفط، دون مشاكل أو عقبات قد تؤثر على الاقتصاد العالمي، وبالتالي الاقتصاد الأميركي؛ وثانيها تقديم الدعم العسكري والأمني واللوجيستي لأهم حليف لواشنطن في المنطقة، وهو إسرائيل؛ أما المصلحة الثالثة فهي ردع إيران، وضمان عدم امتلاكها سلاحا نوويا بأي ثمن؛ والرابعة مطاردة ومحاربة التنظيمات المتشددة التي دخلت في صدام مع الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين.
والآن يمكن إضافة عامل جديد لتلك العوامل، يزيد من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة بالنسبة للولايات المتحدة وهو المتعلق بمواجهة النفوذ الصيني، وبدرجة أقل النفوذ الروسي، الذي تمدد في المنطقة بشكل غير مسبوق، ورأينا بعضا من ملامحه وآثاره خلال الأشهر والأسابيع الماضية، سواء من خلال الوساطة التي قامت بها الصين في حل الأزمة بين إيران والسعودية، أو الوساطة الروسية بين السعودية والنظام السوري، ما يمهد لاستئناف العلاقات بين هذه البلدان؛ فالولايات المتحدة تعتبر المنطقة العربية فناءها الخلفي، ومنطقة نفوذ لا يمكن لأية قوة عالمية أخرى أن تنافسها فيها، ناهيك عن أن تحل محلّها بها، وذلك بغض النظر عن مدى كون هذا الطرح واقعيا وأخلاقيا أم لا.
ولذلك، فليس غريبا أنَّ الولايات المتحدة ما تزال تتمتع بوجود عسكري ثقيل في المنطقة، ويدل على ذلك أولا عدد الجنود البالغ أكثر من 30 ألف جندي موزعين بين عدد من القواعد العسكرية المتناثرة في دول المنطقة، سواء في الخليج العربي أو في العراق وسوريا وتركيا؛ كما أن قيادة الأسطول الخامس الأميركي ما تزال موجودة في البحرين، وهي التي تلعب دورا مهمّا في توزيع القوات البحرية والجوية إلى منطقة آسيا والمحيط الهندي؛ ناهيك عن منظومات الدفاع الجوي الصاروخي وخاصة بطاريات صواريخ باتريوت، بالإضافة إلى سفينتين حربيتين مرابطتين في المنطقة. وصحيح أن هذه الأرقام قد شهدت تراجعا خلال السنوات الماضية، ولكنها أيضا ما تزال كبيرة وفاعلة، ولم يتوقف نشاطها العسكري والحربي والاستخباراتي واللوجيستي طيلة الفترة الماضية، بل هناك -على العكس- ازدياد في النشاط العسكري الأميركي في المنطقة، سواء من خلال المناورات العسكرية التي تقوم بها مع دول المنطقة في الخليج ومصر وإسرائيل، أو من خلال الضربات التي تقوم بها بين حين وآخر لتنظيم “داعش” أو للميليشيات المحسوبة على إيران في سوريا والعراق، خاصة إذا ما تعرّضت للقوات الأميركية الموجودة بالمنطقة، وذلك على نحو ما حدث قبل أيام في منطقة الحسكة شمال شرق سوريا.
إذاً، ليس هناك انسحاب أميركي من المنطقة، ولكن هناك ما يمكن أن نسميه “إعادة تموضع إستراتيجي”، وهو ما يعني إعادة الانتشار الأمريكي في المنطقة بأشكال وطرق أخرى، كجزء من إعادة توزيع فائض القوة الأمريكية على مناطق النفوذ والصراع حول العالم؛ وهي مسألة مرتبطة بحالة السيولة العالمية، والتحول النوعي في النمط الصراعي الذي نتج عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وكذلك الصعود العالمي للصين، الذي أصبح مصدر تهديد وقلق حقيقيين لواشنطن.

إعادة التموضع الإستراتيجي لأميركا في المنطقة يعني الاعتماد بشكل أكبر على الحلفاء الإقليميين، وذلك فيما يخص التعاطي مع التحديات الأمنية والإستراتيجية؛ ولذلك شهدنا في شهر يناير الماضي أكبر مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين الأميركي والإسرائيلي، ووضع سيناريو محاكاة لإمكانية توجيه ضربات عسكرية لإيران.

من الناحية العملية تعني عملية إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة عدة أمور منها:

أولاً: تغير أولويات الأمن القومي الأمريكي نتيجةً لتغير منظومة التهديدات والتحديات والمخاطر الأمنية والإستراتيجية لأميركا، ذلك أن ثمة قناعة لدى أميركا حاليا بأن الخطر الصيني يفوق ويتفوق على منظومة الأخطار في الشرق الأوسط، خاصة الخطر الإيراني؛ وقد وضح ذلك بشكل كبير في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي صدرت في أكتوبر الماضي واعتبرت أن الصين تمثل تحديا وتهديدا إستراتيجيا لأميركا يجب التعاطي معه بجدية، وهو ما تؤكده تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين حول التهديدات الصينية، والتي كان آخرها قبل أيام حين أشار إلى أنه يجب تحضير الجيش الأميركي من أجل خوض مواجهة مع الصين، وذلك في معرض تقديمه لموازنة وزارة الدفاع الأمريكية للكونجرس، التي طالب فيها بزيادة المبلغ المخصص لبناء القدرات العسكرية للجيش الأميركي في المحيط الهادئ، وكذلك لدعم حماية حلفاء الولايات المتحدة، إلى حوالي 9 مليارات دولار بنسبة زيادة قدرها 40 بالمائة عن العام الماضي.
ثانياً: تعني إعادة التموضع الإستراتيجي لأميركا في المنطقة الاعتماد بشكل أكبر على الحلفاء الإقليميين، وذلك فيما يخص التعاطي مع التحديات الأمنية والإستراتيجية؛ ولذلك شهدنا في شهر يناير الماضي أكبر مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين الأميركي والإسرائيلي، ووضع سيناريو محاكاة لإمكانية توجيه ضربات عسكرية لإيران.
ثالثاً: تعني إعادة التموضع الأميركي أيضا إعادة بناء الهيكل الأمني في المنطقة، بحيث يتم دمج إسرائيل به كي تلعب دورا محوريا في توفير الحماية لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وخاصة في الخليج العربي، على الرغم من الشكوك الكثيرة حول هذه المسألة. وقد شهدنا على مدار العامين الأخيرين خطوات متزايدة فيما يتعلق بالتعاون في مجال الدفاع الجوي بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، خاصة فيما يتعلق بمواجهة المسيّرات الإيرانية التي تأتي عبر اليمن أو العراق وسوريا، وكذلك ارتفع حجم التنسيق الأمني واللوجيستي بين إسرائيل وعدد من البلدان العربية، سواء تلك التي لديها علاقات رسمية مع تل أبيب أو التي تتواصل معها من خلف الستار.

وأخيراً، فإن إعادة التموضع الأميركية تعني محاولة تبريد الملفات الإقليمية، وذلك بما يخفف من حدة الصراعات في المنطقة؛ وقد شهدنا حالات لهذا التبريد خلال العامين الأخيرين، وقد ازدادت بكثافة خلال الأسابيع الماضية، سواء على صعيد العلاقات الإيرانية – السعودية، أو العلاقات السعودية – السورية، أو العلاقات المصرية – التركية، وكذلك تهدئة ملفات اليمن وليبيا والسودان، وإن بدرجات متفاوتة.
خلاصة القول، إن ما يحدث حاليا ليس انسحابا أميركيا كما يظن البعض، وإنما إعادة تموضع إستراتيجي سيكون له ما بعده. فالولايات المتحدة لا يمكن أن تتحمل تكلفة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وإلا تكون قد دقّت أول مسمار في نعش نهاية عرشها الإمبراطوري، ليس فقط في المنطقة، وإنما في العالم بأسره.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...