لهذا اليوم ربَّيتك
بقلم: أيمن العتوم
| 30 أكتوبر, 2023
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: أيمن العتوم
| 30 أكتوبر, 2023
لهذا اليوم ربَّيتك
كان قدَرا.. كل شيء يجري بقدر، أعرف هذا تماما؛ ولذلك أنا مطمئنة، وأشعر أن موجة الرضا التي تغمرني تعادل كل هذه الآلام التي تبدو أنها لا تتنهي.
مضت عشرة أعوام قبل أن تهلّ علينا، كان بيتنا مظلما قبلكَ، كنا وحيدَين أنا وأبوك، نذرع الغرفة عصاري الأيام التشرينية كأننا نذرع الفراغ.. لا شيء يُدخل البهجة على البيت إلا صوت طفل يثغو في أرجائه، صوت براءة تنير العتمات، ووقْع أقدام تتهادى على الأرض، تنهض مرة وتسقط مرات.
ثم جئتَ بعد هذه السنوات العشر العجاف، لا أدري كيف يمكن أن أصف فرحتي بك حتى قبل أن تأتي، يوم بدأ بطني يكبر، إنه أنت، صرت في داخلي، وبدأ الأمل يكبر معك، إنها أشهر، تسعة أشهر.. أقلّ قليلا أو أكثر، لكنها ليست مؤلمة في صعوبات الحمل بقدر ما هو مؤلم انتظار مجيئك. لقد كنتُ أعدّ الشهور يوما يوما، وساعة ساعة كفاء قدومك البهيّ.
وأتيتَ! يا الله، كيف يكون عطاؤه بهذا الجمال، بهيّا ناضرا؟! غمازتان في الوجنتين، ووجه أبيض مشوب بالحمرة التي تدلّ على أنه قدرنا، يوم يكون لون الدم هو الذي يعطي لحياتنا عنوانا عريضا.
وفرحنا، أنا وأبوك، كأنّنا لم نعرف الفرح من قبل، وكأن كل حياة قبلك لم تكن حياة! دخلتُ معك في التفاصيل؛ أضحك حين تضحك، وأبكي حين تبكي، وأجوع إذ تجوع وأعطش إذ تعطش، وقبل أن ينسكب كأس الماء في فيكَ كان ينسكب في فِيّ قبلك.
ولامني أبوك؛ لا تعطي كل هذه العاطفة الحانية له، دعي له مساحة من الخشونة، من الرجولة التي يجب أن يشبّ عليها، من رزقَنا به سيرزقنا بسواه. وكنت أعرف أن أباك على حق، ولكنني كنت أتجاهل ما يقول، ذلك أن العاطفة التي تجيش في قلبي كانت تغطي على عقلي، وتضع حاجزا بينهما، وكنتَ لي عالمي الذي لم أعِش في سواه.
ثم شببتَ، شببت على فكرة أعرف أنها ستخطر ببالك حتى ولو لم أقلْها لك، لقد رضعتها مني يوم كنت في حجري.. شببت على الحرية، على الرجولة، على البندقية، كل ما في غزّة يعلّمك أكثر مما نعلّمك. من يستطيع أن ينكر أن غزّة تصنع الرجال الأشد إيمانا وقوة وعزيمة وإصرارا على التحرير في العالم كله؟!
كان لك مثل كل الشباب أحلام وآمال، وكان لك قلب كقلوب كل التائقين إلى كل معنىً سامٍ، كنت تحب، ولكن حبك كان موزعا إلى درجة التماهي بين الوطن ويوم الخلاص، وبين رفيقتَي دربك، فتاة أحلامك، وبندقيتك التي لم تُنزلها عن كتفك حتى حين تأوي إلى النوم بعد يوم طويل وسهر مُضنٍ.
خرجتَ من يديّ.. لا أستطيع أن أحتفظ بك طوال العمر؛ أعرف أنك أصبحت رجلا مذ دخلت المدرسة، واليوم وقد تخرجت في الثانوية أعرف أنك صرت مقاتلا، ثم ها أنت ذا ستصبح قائدا يعزف لفرقته أعذب ألحان الرصاص، وأشجى أنغام الصواريخ. لكنك مع ذلك ما زلت طفلي المدلل، ما زلت ذلك الذي انتظرتُه عشرة أعوام من الحرمان ليكون لي بصيص نور من الأمل في ليلٍ داجٍ من اليأس، ليكون ثمرة انتظاري الحزين للحظة الفرح المؤجّل.. ما زلتَ يا بُنيّ -رغم أنك تبتعد عن البيت أسبوعا وأسبوعين- حاضرا في قلبي وفي وجداني، ما زلت معي رغم كل هذا الغياب الطويل.
وماذا يقول أبوك؟ “لقد صار ابنكِ قائدا في جبهات القتال”.. وماذا ينتظر مني أن أفعل؟! أن أضحك أم أبكي؟! أن أفرح أم أحزن؟! هو يقول ذلك إشفاقا عليّ، ولكنه لا يدري أننا لم ننجب أطفالنا إلا للشهادة، لم نأتِ بهم للحياة إلا ليغادورنا إلى موت مشرِّف، هو لا يدري أنني لهذا اليوم ربَّيتك!
قيل إن آخر من شاهدك رأى ملَكا يهبط من السماء، يمسح عن جبينك غبار السنين، وشظايا الوجع، فيعود وجهك أبيض مشوبا بالحمرة كما كان، يسيل منه الدم مسكا يعطّر سماء غزّة المليء بالدخان والحرائق.. قيل إنه ظل يحملك بين يديه حتى أعادك لرفاقك في القتال، وقال لهم: “لم يكن ينتمي لهذه الأرض، كان من أبناء السماء يوم كان نطفة في رحم أمه”.
أنا هنا، كل هذا الوقت لا أريد أي شيء من هذه الدنيا الفانية، لا أريد سوى أن أراك، أن ألقي على جسدك الطاهر نظرة وداع أخيرة، أن ألمس وجهك لأعرف أنك صدقت الوعد، أن أتحسس ذراعيك، ذارعيك اللتين كنت تحضنني بهما كلما عدت من الجبهة وأنت تهمس في أذنَيّ، وتَعِدني: “لن أُطيل الغيبة في المرة القادمة”، وها أنت ترحل طويلا وتغيب بعيدا، وها أنذا في بيتنا المهدّم أمام سريرك الذي نجا من هذا الجنون.. ما زلتُ أنتظر أن تعود، وما زلتُ أشعر بأمل -ولو كان ما أشعر به ليس له صلة بالواقع- أن تفتح الباب وتلقي عليَّ بصوتك الحنون التحية، وتأخذني بذراعيك كما كنت تفعل… ولكن يبدو أنك لن تفعل أبدا!
صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق