مؤتمر القاهرة: قصة الأيام العشرة التي شكَّلت الشرق الأوسط (2)

بواسطة | فبراير 24, 2024

بواسطة | فبراير 24, 2024

مؤتمر القاهرة: قصة الأيام العشرة التي شكَّلت الشرق الأوسط (2)

إذا لم تكن قرأت الجزء الأول من القصة، يمكنك الوصول إليها من هنا:
مؤتمر القاهرة: قصة الأيام العشرة التي شكَّلت الشرق الأوسط(1)

بعد سقوط العثمانيين بدأ الحلفاء التفكير في مستقبل المنطقة، خصوصًا في العراق وسوريا والأردن وفلسطين، وسط مُعضلات معقدة مثل وعد بلفور، وحقوق العرب الذين قاتلوا بجانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، والاتفاقيات السرية التي أبرمتها الدول الأوروبية، مثل سايكس-بيكو، والرغبة في تقليل النفقات في الشرق الأوسط بسبب الثورة والتمرد في العراق.

وسط هذه المشكلات، كان من اللازم عقد مؤتمر للبحث عن حلول عملية.

خانوم بغداد تبحث عن حل سلمي

تصاعد إحباط تشرشل مع استمرار الثورة العراقية معظم عام 1920، بسبب التكلفة الباهظة التي يدفعها البريطانيون من دمائهم وأموالهم في ظل انتدابهم على العراق، وكان تشرشل عازمًا على خفض التكلفة رقمًا بالملايين، من 20 مليون جنيه إسترليني إلى 7 ملايين فقط، ولتحقيق هذا الخفض الكبير، أراد إعطاء الأولوية للدفاع الجوي على القوات البرية، بوصفه وسيلة أكثر قابلية للاستمرار وأكثر توفيرًا من الناحية الاقتصادية، لضمان أمن العراق في المستقبل. وكانت «جيرترود بيل» أسعد الناس بالاستماع إلى نيات تشرشل في هذا الصدد، لأنها كانت ضد عنف القوات البريطانية في العراق.

يحكي «برادفوت» في كتابه «مؤتمر القاهرة» أن بيل كانت تعيش في منزلها وسط بغداد طوال هذه الفترة التي مزقها التوتر في العراق، وازداد يأسها من العنف المتفشي حولها، كما أحبطها أكثر فأكثر ألا تدرك الحكومة البريطانية من خلال وزارة الهند أن الاستمرار في ممارسة النمط الحالي من الحكم شبه العسكري في العراق كارثة محققة.. وبعد أن خمدت الثورة أخيرًا، استبدل بويلسون شخصية جديدة هي كوكس في أكتوبر عام 1920م، فكان ذلك إيذانًا بانتهاج الطريق نحو الإصلاح السياسي.

وقد اعتادت الخاتون، كما سماها العرب، أن تُكاتب المسؤولين باستطراد وإسهاب في بعض الأحيان، كانت بيل وهي تكتب رسالة إلى وزير الهند «إدوين مونتاغيو» توضح تصورها لسبل تحقيق تقدم سياسي حقيقي في العراق، كما أوضحت له أنه يجب على البريطانيين ألا يسألوا الشعب العراقي عما يريد بالضبط، لأن الغالبية لا تعرف، ولذلك تنصحه بدل السؤال أن يقول للعراقيين: هذا ما ستسبغه عليكم الحكومة البريطانية العظيمة!

ومن المؤكد أن كلمات بيل السابقة تحمل نبرتَي الإرشاد والتعالي، فبقدر ما كانت بيل متعاطفة مع تطلعات القومية العربية، فإنها شاركت زملاءها البريطانيين نزعتهم الاستبدادية الواضحة، وهكذا قدمت رؤية تمزج بين حكم العرب أنفسَهم وبين إشراف ووصاية بريطانية، بل إنها درست وضع العراق وكتبت وثيقة تتألف من 156 صفحة، بعنوان «بحث في وضع الإدارة المدنية ببلاد الرافدين»، ولم تكن كتابة بيل هذه التقارير أمرًا معهودًا في ذلك الزمن، خصوصًا من امرأة تنخرط في شؤون السياسة؛ وهكذا عاد النقاش عام 1920م إلى “كيف يمكن حكم العراق؟”.. وكتبت بيل: «يا له من عالم معقد أورثتنا إياه الحرب»، دون الاعتراف بأن أطماع بريطانيا كان لها دور في خلق هذا العالم.

في هذه الفترة، كانت أيام تشرشل في وزارة الحرب والطيران في أواخرها، وكان يحضر نفسه للانتقال إلى وزارة المستعمرات، وكانت تنتظره مسؤولية صنع السياسة البريطانية في الشرق الأوسط.

تشرشل في وزارة المستعمرات: نحو مؤتمر القاهرة

يشير كتاب «مؤتمر القاهرة» أن ونستون تشرشل قضى الأسابيع الأخيرة من عام 1920م، وزيرًا للدولة لشؤون الحرب، مهمومًا بمعالجة ثلاثة ملفات معقدة، كان أكثرها إلحاحًا ملف الاضطرابات الشديدة في العراق، والملف الثاني صد تقدم الجيش الأحمر البلشفي الثوري في روسيا، أما الثالث فكان قلاقل حرب الاستقلال الأيرلندية، وكانت حروبًا ضروسًا بين الجانبين، استمرت حتى أواخر عام 1921م، ثم انتهت إلى مفاوضات سلام أدى تشرشل فيها دورًا حاسمًا، وعقد مفاوضات مع «شين فين»، الذراع السياسية للثورة في أيرلندا، قائلًا لهم: «أوقِفوا القتال واشرعوا في التفاوض»، وكانت النتيجة معاهدة بينهم.

ثم تأتي معضلة بلاد الرافدين أو العراق، التي كلفت بريطانيا أموالًا طائلة، إذ وصلت مصاريف بريطانيا إلى ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني لحكم العراق وفلسطين والجزيرة العربية، أي ما يعادل مليار جنيه إسترليني اليوم، وقد أُنفق نصف هذا المبلغ على العراق وحده لقمع التمرد؛ وفي الأول من يناير/ كانون الثاني عام 1921م، طلب تشرشل وظيفة جديدة، فقدمها له رئيس الوزراء «لويد جورج»، ومن هنا جاء وزيرًا للمستعمرات.

كانت مصر، التي وقع عليها اختيار تشرشل لتكون مكانًا لعقد المؤتمر، ملائمةً جغرافيًّا وغير ملائمة سياسيًّا، فقد كان المصريون يعرفون ما يميل إليه تشرشل بأن مصر يجب ألا تنال الاستقلال، وفي 1 فبراير/ شباط 1921م‏ كتب تشرشل إلى زوجته: «الشعب في مصر منفعل بسبب مجيئي، ويبدو أنهم في مصر يظنون أن لمجيئي علاقة بهم، وهذا بطبيعة الحال ظنٌّ خاطئ. ليست لي مهمة في مصر ولا سلطة لي لمعالجة أي مسألة مصرية.. يجب أن أوضح ذلك تمام الإيضاح، وإلا فإنهم سيزعجوننا بالمظاهرات والوفود».

لورنس العرب المشهور

أنشأ «تشرشل» قسم الشرق الأوسط، وفكر في تعيين توماس إدوارد لورنس – المعروف بلورنس العرب- في قسم الشرق الأوسط، حتى يصبح مستشاره العربي الخاص في وزارة المستعمرات.

ولعل لورنس كان أشهر إنجليزي في العالم في يناير/ كانون الأول عام 1921م، وقد ذاعت شهرته عبر دار الأوبرا الملكية في لندن التي قدمت عروضًا عن حياة لورنس، الإنجليزي الذي يرتدي ملابس العرب، وقد جذب عرض حياة لورنس نحو مليون شخص في لندن وحدها. وقد قدم المنتج الأمريكي لويل توماس هذه العروض، وجعل من الثورة العربية عملًا بطوليًّا، وصوَّر العثمانيين على أنهم أشرار يعترضون طريق التحرر الوطني العربي.

لقد اخترع «لويل توماس» بطلًا ليسوّقه، وقد وجد ضالته في لورنس المغامر، وهكذا أصبح لورنس نجم العرض، إذ بدا كأنه شيخ عربي، وكأنه خارج من أفلام ألف ليلة وليلة، بل اعتبره ملك الجزيرة العربية غير المتوج، كما أطلقت عليه مجلة ستراند في ربيع عام 1920م، ولم يلبث لورنس أن سئم الشهرة العابرة، وكان يعيش في بيت شبه منعزل بالقرب من البرلمان، حيث بدأ كتابة سيرة أعمدة الحكمة السبعة.

لقد رأى تشرشل لورنس في مؤتمر السلام في باريس، حيث كان مع فيصل كظله، وافق لورنس على التعيين بعد إلحاح تشرشل، لأنه في الواقع كان يرنو إلى فرصة ثانية لنصرة القضية العربية التي أُحبطت من قبل، فقد عاد لورنس في صيف عام 1919، وسقط في مستنقع اليأس، وكان في غاية الكآبة حتى إنه كان يجلس كما روت والدته في منزله في أكسفورد طوال الصباح بين الإفطار والغداء على الهيئة نفسها.

ومع أن لورنس أخبر أصدقاءه أنه هجر السياسة، فقد عاد مرة ثانية في فريق تشرشل، كان لورنس قد باشر العمل حتى وقت متأخر من الليل في وزارة المستعمرات، وكان تشرشل مسرورًا لتمكنه من إقناع أكثر نقاده خطورة بأن يصبح موظفًا حكوميًّا مرة أخرى، فقد نجحت هذه الآلية في إسكات لورنس عن نقد السياسة البريطانية.

وفي هذا الوقت زار تشرشل باريس ليحضر معرضًا فنيًّا له يعرض لوحاته، وقد غمرت السعادة تشرشل حين علم أن ستًّا من لوحاته قد بيعت.

تشرشل يبحث عن أرخص حل

يحكي جيمس بار في كتابه «خط في الرمال» عن سرور تشرشل – المشهور بغروره الكبير- بنقله إلى وزارة المستعمرات، خصوصًا عندما وجد أن مكتبه الجديد كان ضعف حجم مكتبه القديم في وزارة الحربية، ولكن الزيادة في المساحة كانت مجرد تعويض ضئيل عن الصداع الذي سوف يلاحقه.

واجهت تشرشل عقبات في وزارته الجديدة، مثل عدم تبعية مصر للوزارة، فقد كانت مصر تابعة لوزارة الخارجية، والأمر الثاني هو انزعاج وزير الخارجية «كيرزن» من اهتمام تشرشل بالشرق الأوسط، فقد اشتكى «كيرزن» في رسالة إلى زوجته من أن تشرشل، وزير المستعمرات الجديد، «يريد الاستيلاء على كل شيء في وزارته الجديدة حتى يصبح وزير الخارجية مسؤولًا عن قارة آسيا فقط».

وفي إبان ذلك، كان وزير الهند «إدوين مونتاغيو» منزعجًا أيضًا من احتمالية تطفُّل تشرشل على سلطته الإدارية، وهذا يُظهر الخلافات التي تكون في الإدارة الاستعمارية، مثل خلافات مكتب القاهرة ومكتب الهند على مستقبل الجزيرة العربية، وهي خلافات لها علاقة بالمساحات السياسية والتنافس على المناصب والحضور داخل الإدارة، وهذا يعني تصورًا مختلفًا عن صورة مؤامرة تجمع عليها القوى الاستعمارية، بل أحيانًا تكون بينهم خلافات داخلية وأمزجة منوعة.

وفي هذا الوقت كتب تشرشل لزوجته: «يجب أن نحاول العيش في حدود دخلنا»، لكن الحالة المادية لتشرشل تحسنت؛ فبعد قتل ابن عمه اللورد “هربرت فاين تيمبيست” ورث تشرشل ثروة هائلة تبلغ نحو 56000 جنيه إسترليني، وهو مبلغ يساوي اليوم 2.5 مليون جنيه، بوصفه الوريث الذكر الحي الوحيد، ومع انتعاش ثروة تشرشل واختفاء المكايد الوزارية، يقرر عقد مؤتمر في القاهرة حول حكم الشرق الأوسط، على ألا تكون مصر قيد المناقشة فيه.

وكان جوهر الخطة الناشئة لدى تشرشل أن يتبوأ فيصل عرش العراق، ويقنعه بذلك لورنس العرب، خصوصًا أن «لورنس العرب» هاجم سياسة بريطانيا في العراق على صفحات الجرائد، على أن تشرشل الذي رأى في نسب فيصل شرعية للحكم، رسم لفيصل في ذهنه صورة القائد العربي، ولذا أصيب بخيبة أمل عندما حضر فيصل اجتماعهم الأول معتمرًا قبعة طويلة وسُترة.. طلب تشرشل من لورانس أن يترجم للأمير أسفه على «ضياع ملابسه الجميلة»، وأجابه فيصل: «نعم وأنا أضعت مملكتي الجميلة»، كما يحكي جيمس بار في كتاب «خط في الرمال».

والشق الثاني من خطة تشرشل أن يكون عبد الله على عرش الأردن، وهنا سيبدأ الحديث عن الحل الشريفي، وكان ما يُقلق تشرشل هو احتمال أن يثير حفيظة ابن سعود عندما يرى على حدوده دولتين يقودهما أبناء عدوّه الشريف حسين. والخطة لخصها لورنس عندما نصح تشرشل بأن «خاطِر واجعل ملكًا محليًّا في العراق، وسلم الدفاع إلى سلاح الجو البريطاني بدلًا من الجيش».

عبد الله في شرق الأردن

يحتوي سجل تشرشل الضخم على سطر من خطاب ألقاه أمام مجلس العموم في مارس/ آذار من عام 1936م، ذكر فيه أن «الأمير عبد الله موجود في شرق الأردن، حيث وضعته بعد ظهيرة أحد أيام الأحد في القدس»، فقد اشتملت النقطة الأخيرة للورنس بشأن شرق الأردن على عنصرين: عدم تسليمها للصهيونية مع وجوب إنشاء دولة منفصلة يحكمها عبد الله بن الحسين، ويوضح الكاتب «ديفيد فرومكين» في كتاب «سلام ما بعده سلام» أن بريطانيا استفادت من تعيين عبد الله لأنها وفرت تكاليف جنود وحامية بريطانية فيها، مقابل بناء قواعد جوية تحفظ أمن المنطقة دون تكاليف قوات مشاة، واستفادت أنها وضعت حدًّا للطمع الصهيوني في التوسع خارج فلسطين، وكذلك في الرد على العرب أنها التزمت وعودها لهم في الثورة العربية.

وكانت وجهة نظر تشرشل أن عبد الله سيساعد على ضبط الحركات المعادية لفرنسا ويقف جدارًا أمام توسع الصهيونية ويمنع نشوء مقاومة عربية ضد فرنسا، التي لو زادت المقاومة العربية ضدها، فقد ترد ساعتها باحتلال فلسطين فتفشل خطط بريطانيا.. هكذا رأى «لورنس العرب»، مستشار تشرشل في هذا الوقت، أن عبد الله سيكون وكيلًا مثاليًّا لبريطانيا في المنطقة لأنه شخص لا يتمتع بسلطة كبيرة، وليس من أهل شرق الأردن، ولكنه يعتمد على حكومة جلالته في الاحتفاظ بمنصبه.

وفي طريق عودة تشرشل إلى بريطانيا، كتب في الريفييرا الفرنسية، حيث توقف هناك، رسالة إلى وزير الخارجية اللورد «كورزون» قائلًا: «لقد تبين لي أن عبد الله قد انحاز كليًّا إلى أسلوبنا في معالجة المشكلة العربية، آمل ألا يحوز أنصاره عنقه، إنه شخص مهذب ومحبب إلى النفس»، كما يحكي فرومكين في كتاب «سلام ما بعده سلام».

ويبين كتاب «القاهرة 1921» أن فلسطين التاريخية قُسّمت مرتين، المرة الثانية المعروفة في عام 1947م، أما المرة الأولى فكانت في مؤتمر القاهرة 1921م، وقد نشأت إمارة شرق الأردن عن هذا التقسيم.

وكان الهدف من هذا التقسيم الأول هو منح عرب فلسطين دولة في إطار محاولة تشرشل الموازنة بين وعد بريطانيا لحلفائها العرب (الشريف حسين وأسرته) بدولة عربية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ووعدها للصهاينة بدولة يهودية على أرض فلسطين (لا تمس مصالح بقية السكان)، ومسعاها التاريخي لتشكيل قاعدة غربية أمامية في الشرق.

وقد رفض السير هربرت صموئيل، الصهيوني الجَلد، وأول مفوض بريطاني سامٍ على فلسطين، هذا المقترح أول الأمر (كان يريد فلسطين التاريخية كلها بما فيها شرق الأردن لليهود)، ولكنه كان سياسيًّا عقلانيًّا يعي أن تأييد بريطانيا لوطن يهودي على أرض فلسطين رهين تأييدها شرق أردن عربيًّا، فاستطاع تشرشل إقناعه بهذا المقترح في نهاية المطاف عن طريق تدخل حاسم من أحد مساعديه في وزارة المستعمرات، وهو توماس لورنس الشهير.

يروي الكتاب أنه لما احتدم الخلاف بين «أنصار العرب» وأنصار الصهاينة من مندوبي المؤتمر، وجُلّهم موظفون بريطانيون استعماريون «عرض لورنس وجهة نظره في أن دولة عربية بقيادة (الأمير) عبد الله (ابن الشريف حسين) قد تكون صمّام أمان في المنطقة، إذ يمكن الضغط على حاكم يعتمد مركزه على التأييد البريطاني لحمله على كبح جماح معاداة الصهيونية في شرق الأردن. وردّ صموئيل بأنه يخشى استمرار الغارات العربية عبر الحدود إلى داخل فلسطين. ولكن لورنس عقّب قائلًا: إن مسألة هذه الغارات يمكن حلها على أفضل وجه من خلال نظام حكم جيد في شرق الأردن؛ وأضاف أن إدارة الوضع قد تأتي على نحو فعال لمصلحة الطرفين إذا أظهر عبد الله حُسن التصرف».

كل الشرق الأوسط هنا: عشرة أيام في القاهرة

غادر تشرشل لندن إلى القاهرة، ووصلت السفينة إلى الإسكندرية، وطلب تشرشل أن يذهب إلى خليج أبي قير، حيث يتذكر الهزيمة التي أوقعها الأدميرال نيلسون بأسطول نابليون في عام 1798م، وهو الانتصار الذي أفضى إلى تغيير مساء النظام الثوري الفرنسي، وساعد على ترسيخ سيطرة بريطانيا على البحار، لم يكن حضور تشرشل إلى القاهرة محبوبًا حيث صاح متظاهرون مصريون غاضبون «يسقط تشرشل»، ورشقوا قطاره بالحجارة.

وصل تشرشل إلى فندق سميراميس الفخم على ضفاف النيل، وهو أحد الفنادق الفاخرة في القاهرة، وكان أقرب جيرانه دار المفوض السامي البريطاني وثكنة «قصر النيل» التابعة للجيش البريطاني.

وفي عام 1921م كان عدد سكان القاهرة نحو مليون نسمة، فكانت بذلك أكبر مدينة في إفريقيا، وكانت مصر قد حدثت فيها ثورة كبيرة قبل ذلك بعامين، عام 1919م، ووصل إلى القاهرة لورنس العرب و«جيرترود بيل» و«بيرسي كوكس»، وكان الجمع الموجود من الموظفين البريطانيين يصل إلى 39 مشاركًا، وكتب لورنس رسالة إلى والدته يفخر فيها قائلًا: «كل مَن له علاقة بالشرق الأوسط موجود هنا»، وصفهم أحدهم بالـ “أربعين حرامي”، ما أثار ضحك تشرشل على الفور.

وصل العميل البريطاني في أرض الصومال، السير جفري آرتشر، وقد خطف الأضواء لدى وصوله ومعه شِبْلان، وفي الكتاب قصة ملاحقة الشبلَيْن طيورًا في منزل المندوب السامي ألنبي.

افتتح تشرشل المؤتمر قائلًا: «أعتقد أننا سنستنتج بالإجماع أن فيصل يمنحنا الأمل في التوصل إلى أفضل حل وأرخص حل»، سيُعقد المؤتمر في مدة تزيد قليلًا على أسبوع ويعقد الخبراء ما يقرب من خمسين اجتماعًا.. ويضعنا كتاب مؤتمر القاهرة في كواليس الاجتماعات والحضور والنقاشات الاستعمارية، وقد حضر إلى المؤتمر من العرب جعفر العسكري، وكان وزير الدفاع في العراق، ووزير المالية يوسف حسقيل، وهو أحد يهود العراق، وقد سعدَتْ بهما بيل، لأنهما مثَّلا عناصر وطنية عراقية في مؤتمر يناقش مستقبل العراق.

كان ما يشغل بال تشرشل خفض نفقات وجود بريطانيا في الشرق الأوسط والعراق، وتحقيق درجة من الوطنية المحلية تُسهم في توحيد العراق، وتعمل على التوازن حتى تدور عجلة الإمبراطورية.

لقد وضع المؤتمر مرشحَين لحكم العراق يناقشهما الكتاب وينظر في فرص حصولهما على عرش العراق، ولفت نظري أن ابن سعود كان أحد المرشحَين، أما المرشح الأصعب فقد كان طالب النقيب، ولكن نجحت بريطانيا في استبعاده، وضمنت وصول فيصل إلى عرش العراق.

في القاهرة كانت لنا أيام: خانوم بغداد

ارتبطت حياة المس بيل بالعراق منذ قدومها إلى العمل في المكتب العربي في البصرة في مارس/ آذار 1916م، وتعلَّق قلبها بحب العراق والعراقيين، كما تفيض رسائلها الخاصة المفعمة بعطر هذه المحبة إلى ذويها، إذ تقول: «نفذ حبُّ الشرق إلى قلبي، حتى أصبحتُ لا أعرف كيف أفرّق بينه وبيني.. إن شعوري بذلك لا يفارقني أبدًا، وأنا أشعر دومًا بسحره وجاذبيته اللذين لا يقلّان في نظري كلّما ازددت تعرفًا إليه».

كان لورنس العرب قد لاحظ، وبلمحة تفوُّق ذكوري، كما يذكر الكاتب «برادفوت» في كتابه «مؤتمر القاهرة»، أن بيل لم يكن فيها من الأنوثة الكثير، وقد لاحظت بيل نفسها الحالة المزرية التي كانت عليها شؤون منزلها الداخلية في العراق، إذ قالت: «ما أريده حقًّا هو زوجة تعتني بأسرتي وملابسي، أنا أفهم تمامًا لماذا يتزوج الرجال هنا من أي امرأة يصادفونها».

وعلى الرغم من دراسة بيل التاريخ في جامعة أكسفورد، ورحلاتها الأثرية وسفرها الدائم وعملها الحكومي، فقد كانت تدخن السجائر، لكن أنوثتها انعكست بوضوح في ميلها للملابس الأنيقة باهظة الثمن والقبعات. وكانت بيل سعيدة بما حدث في مؤتمر القاهرة من تعيين فيصل ملكًا على العراق، فقد كتبت إلى أحد أصدقائها: «لقد كان رائعًا، أنجزنا في أسبوعين أكثر مما كان يُنجز في عام كامل في ما مضى».

كان ونستون تشرشل يقول عن بيل: «هي الرجل الوحيد في المؤتمر»! على أن بيل، التي أجادت اللغتين العربية والفارسية، ودرست تاريخ المنطقة، وباتت خبيرة في شؤون القبائل، تعرفت على مارك سايكس، الموظف البريطاني المشهور في معاهدة سايكس-بيكو، ولكن السيدة بيل نفرت من كلام سايكس العنصري ضد العرب، فقد كان ينعتهم بـ«حيوانات» و«جبناء» و«مرضى» حسب ما رَوَت. وكانت بيل تحب بيت شِعر للبيد بن ربيعة، صدّرت به أحد كتبها الذي يتحدث عن رحلاتها، وهو قوله:

بلينا وما تبلى الـنجوم الطوالع   وتبقى الجبال بَعدَنا والمصانع

ونفت بريطانيا – عن طريق المندوب السامي كوكس- “طالب النقيب” خارج العراق، وهكذا خلا الجو لفيصل من أكبر منافس له. ومع عودة بيل إلى العراق وتتويج فيصل في 11 يوليو/ تموز كانت لحظة تتويج لبيل أيضًا، التي كان العراق بلدًا لها كما وصفته، وكان العراق شغلها الشاغل في الحياة؛ ولأن بيل لم تتزوج، ولم يكن لها أطفال، فقد تمحور عالمها حول عملها ضمن طاقم موظفي المندوب السامي كوكس ثم مستشارة للملك فيصل.

وكان تشرشل ينتهز كل فرصة تقريبًا لمزاولة الرسم، ومشاهدة معالم مدينة القاهرة، فقد زار مع زوجته قلعة صلاح الدين، وعانى تشرشل من ركوب الجِمال على عكس «لورنس العرب» و«مسز بيل»، اللذين تعوّدا امتطاء الجِمال في الصحاري العربية، وانزلق تشرشل عن ظهر الجمل وسقط على الرمال عند “أبو الهول”، فعلّقت زوجته «كليمنتين» ساخرة: «هكذا يسقط الجبابرة»، وفي اليوم التالي، 21 مارس/ آذار، استضاف تشرشل حفل عشاء فاخر في سميراميس، فقد اشتهر الفندق بجودة المأكولات الفرنسية، فقدم للمشاركين أطيب ما لديه، وأهلَّ الصباح بصورة شهيرة أصبحت أيقونة لهذا المؤتمر.

لم ينتهِ العمل في القاهرة، إذ سافر تشرشل إلى القدس، ويتخيل المؤلف برادفوت صورة تشرشل بعد تحرك القطار من القاهرة في منتصف ليل 23 مارس/ آذار، ولربما أشعل تشرشل سيجاره الكوبي الشهير، مرتقبًا إجراء بعض اللقاءات التكميلية في القدس، واصطحب معه لورنس العرب، وفي الكتاب تفاصيل تنفيذ خطة الأردن والعراق وفلسطين بمعلومات ثرية ووصف مميز.

من المفارقات أن سعادة تشرشل بنهاية المؤتمر لم تدُم بعد ذلك مدة طويلة، كان في بريطانيا عام 1922م‏ إجماع في الرأي على أن تشرشل انتهى سياسيًّا، وبدا تشرشل محطمًا بعد أن فقد مقعده الوزاري في أكتوبر/ تشرين الأول، ومقعده في مجلس العموم في نوفمبر/ تشرين الثاني.

يتذكر أحد الذين صحبوا تشرشل إلى مأدبة عشاء في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني أن: «تشرشل كان شديد الكآبة، فلم ينبس ببت شفة طوال الأمسية، إلا في ما ندر، كان يرى أن عالمه وصل إلى النهاية، ‏على أقل تقدير عالمه السياسي»، بل إنه ترك بريطانيا وسافر إلى جنوب فرنسا لكتابة مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الأولى، ورشح نفسه مرة ثانية عام 1923م وهُزم مرة أخرى في الانتخابات، لكن وضع تشرشل أخذ في التبدل عام 1924م، إذ عاد إلى البرلمان، وأصبح وزيرًا للمالية، وهو منصب يعتبر الثاني في الأهمية بعد رئيس الوزراء، وأخذت الغيوم تتبدّد وعاد إلى ممارسة السياسة، إذ يوجد فصل مهم من حياته ينتظره في الحرب العالمية الثانية.. هكذا كان تشرشل في قلب سياسة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى وتسوياتها، وفي الحرب العالمية الثانية.

في نقد سردية مؤتمر القاهرة

أحد عيوب سرد «برادفوت» في كتابه مؤتمر القاهرة هو تجاهل صوت العرب عبر البحث في مذكرات الفاعلين في هذه الفترة، مثل رفاق فيصل الذين كانوا حوله، ومنهم رستم حيدر وغيره ممن كتبوا شهادة عن تلك الفترة، وهذا الاستنطاق لمذكرات العرب نجحت فيه «إليزابيث تومبسون» في كتابها «لماذا سرق الغرب الديمقراطية من العرب»، والصوت العربي نجده في كتاب يوجين روغان «سقوط العثمانيين»، إذ يعود لكثير من مذكرات الشخصيات العربية في تلك الفترة. ومن العجيب أن برادفوت، الذي بنى كتابه على سِيَر أبطال تلك الفترة، مثل ألنبي ولورنس العرب، لم يعطنا لمحة حياتية عن جعفر العسكري، ولم يعُد إلى مذكراته فيعطيه مساحة في الكتاب، والطريف أن الذين جمعتهم الصورة الشهيرة، التي يظهر فيها لورنس العرب مع الملك فيصل في مؤتمر باريس وحوله عديد من الشخصيات، كلهم كتبوا مذكرات؛ مثل رستم حيدر وفايز الغصين، ولعل الصوت العربي في تصور تلك الفترة التاريخية هو ما يفتقده كتاب مؤتمر القاهرة.

النقطة الثانية أن الكتاب يركز على عبقرية الإدارة البريطانية في حل تناقضات مشروعها الاستعماري، دون الانتباه إلى أطماعها وتدخلها في المناطق المحررة وتسليم فلسطين لليهود، فضلًا عن رفض أهالي البلاد وجود بريطانيا في ثورة 1919م في مصر وثورة العشرين في العراق.. لا نرى لدى المؤلف إحساسًا بفداحة ما فعلته القوى الإمبريالية في تقاسم المنطقة وتقطيعها وتجاهل طموحات العرب، وأن أراضي عربية انتُزعت بالقتل والقصف.

يتجاهل برادفوت التكلفة البشرية التي نتجت عن دخول القصف من الطيران مجال تأمين الحدود، فقد تصوَّر تشرشل أن استخدام الطيران في الضبط والسيطرة على السكان، وفي العمليات الحربية، وسيلة لخفض كلفة استخدام المشاة والخيَّالة والدروع؛ وتولى المشير «هيو ترنشارد»، قائد سلاح الجو الملكي، تطبيق تلك السياسة، وكانت ثورة العشرين ميدان اختبار استخدام الطيران الحربي المكثف ضد المدنيين.

وتشرشل أيًضا هو صاحب نظرية استخدام الغازات السامة في القصف الجوي، على اعتبار أنها «أرحم على المدنيين» من المتفجرات، فقرر تصنيع غاز الخردل الذي استخدمه الجيش البريطاني ضد الأكراد والآشوريين، وفي الدفاع عن عرش الأمير عبد الله بن الحسين في نزاعه الحدودي مع آل سعود عام 1924م، وفي قمع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 -1939)م، وينبهنا كتاب فواز طرابلسي «سايكس بيكو بلفور» إلى تباهي الضابط آرثر هاريس بأنه يمكن للطيران الحربي محو قرية كاملة عن بكرة أبيها في 45 دقيقة، وتحويل جميع سكانها إلى قتلى أو جرحى، وأن الأداة الاستعمارية البريطانية ستتعلم استخدام الطيران للضبط والسيطرة على المدنيين، ولا سيما القبائل، بدلًا من تمركز القوات على الأرض، وسيُستخدم هذا الأسلوب على نحو واسع في اليمن الجنوبي.

من المهم قراءة هذه الفترة المهمة في تاريخ العرب، وكتاب مؤتمر القاهرة يزيد بالتأكيد فرص فهمنا لهذا العالم المعقَّد الذي نتج عن الحرب العالمية الأولى.. ينبهنا المؤلف برادفوت أنه من الصعب اليوم، وبعد مائة عام، تجنب استنتاج أن الفشل متعدد الصُّعُد للوصفات الجيو-سياسية لمؤتمر القاهرة للشرق الأوسط، ما زالت تداعياته الوخيمة حاضرة بيننا، فقد كانت فلسطين – كما قال «وليم روجر لويس»- هي أعظم إخفاق في كل تاريخ الحكم البريطاني.. هذا كتاب أرشحه للقراءة والنقاش والتفاعل، خصوصًا مع الترجمة الجميلة الرائقة والهوامش المفيدة من المترجم أحمد العبدة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...