ما أغنى عنه ماله وما كسب

بقلم: د. عبد الله العمادي

| 12 يونيو, 2024

بقلم: د. عبد الله العمادي

| 12 يونيو, 2024

ما أغنى عنه ماله وما كسب

إنه النموذج الأبرز للشخص الذي ما أغنى عنه ماله وما كسب.. النموذج الذي سيظل يتأمله المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ولكن قبل أن يصل هذا النموذج إلى تلك المرحلة التي لا يغني عنه فيها ماله وما كسب، كان من أكثر المحبين لأخيه عبد الله الذبيح، والد نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا ما رزقه الله بولد وحيد هو نبينا الكريم، ويتوفى بعد ذلك، يقوم أبو لهب مجسداً محبته لابن أخيه بعتق جاريته التي زفّت إليه خبر الولادة.

أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) يؤكد محبته لابن أخيه أكثر فأكثر، حتى إنه يختار بعد سنوات اثنتين من بنات ابن أخيه (صلى الله عليه وسلم) لولديه، عتبة وعتيبة.. اختار رقية (رضي الله عنها) لعتبة، وأم كلثوم (رضي الله عنها) لعتيبة، رغم أنهما كانا على الشرك، فيما كانت رقية وأم كلثوم مسلمتين، حيث لم تكن آية تحريم تزويج المسلمات للمشركين قد نزلت بعد.

يتغير الوضع فجأة، ويضيع كل ذلك الحب الأبوي، وتنقلب الأمور رأساً على عقب بشكل دراماتيكي. فبمجرد أن انتشر خبر الدعوة والرسالة انقلبت قريش على الصادق الأمين، وكذبت دعوته فوراً، وتصدت لهذه الدعوة الجديدة في مكة، وكان من ضمن المنقلبين أبو لهب الهاشمي، في خطوة غير مفهومة ولا مقبولة عند العرب حينذاك؛ إذ المفترض أن تتصدر العصبية القبلية المشهد عند أبي لهب يومذاك على عادة العرب، ولكن لم يحدث ذلك أبداً!

خالف أبو لهب كل تلك التقاليد العربية المتوارثة، فكان بدلاً من ذلك من أوائل من جاهـر بالعداوة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وهو لم يكن – كما يبدو للوهلة الأولى- ليحتاج إلى كل تلك العداوة مع أحد أقرب المقربين إليه، بل لم تكن هناك حاجة تستدعي أن يتنافس هو مع آخرين من صناديد وعتاة القبائل القرشية الأخرى في معاداة أحد رجالات بني قومه، بني هاشم، لكن هذا ما حدث.

الانقلاب المذموم

انقلب إذن هذا العم، المحب لابن أخيه لدرجة أنه أعتق جارية له فرحاً بمولده (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان معروفاً عندهم أن العربي لا يعتق رقاب عبيده وجواريه إلا لأمور عظيمة. إلا أن هذا العم خالف أبناء عبد المطلب وتقاليد بني هاشم وقريش وجل العرب بشكل عام؛ وقد كان المتوقع منه، وهو الهاشمي الأصيل، أن يكون كبقية إخوانه مع ابن أخيهم، يدافعون عنه حين بدأت قريش تؤذيه، ولو من باب العصبية القبلية، كعادة العرب في الجاهلية كما أسلفنا.

خالف أبو لهب توجهات بني هاشم واصطف مع كبار مجرمي قريش، أمثال أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف والنضر بن الحارث وغيرهم، وظهر وتبين أن سبب عداوته السريعة تلك، كما في الروايات التاريخية، هو حسد من عند نفسه على ما تفضل الله به على نبيه بالرسالة دون سائر بني هاشم، ليتطور ذلك الحسد إلى حقد أعمى ثم عداوة تتفاقم يوماً بعد يوم، حتى التهبت نفسه، وصارت ناراً تأكله هو وزوجته أم جميل، واسمها أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، والتي اشتهرت بحمالة الحطب بعد نزول سورة المسد فيهما. لكن مع ذلك لم تردعهما السورة التي نزلت، وفيها وعيد شديد لهما، إلى أن هلكا وختم كل منهما حياته بشقاء أبدي في نار ذات لهب.

لم ينتفع أبو لهب بعلاقة القرابة مع خير البشر كما إخوته وأبناء إخوته: سيد الشهداء حمزة، وجعفر الطيار، والعباس وعقيل وغيرهم. فلا هو أغدق خيراته على ابن أخيه ودينه مثل أولئكم العظماء، ولا كفّ شره وناصره كأضعف الإيمان، مثل أخيه أبي طالب. لكنه أبى إلا أن يكون عقرباً لئيماً عنيداً حسوداً حقوداً، أنهى حياته بنهاية لا تسره، لا في قبره ولا في آخرته.

ما أغنى عني ماليه

كل ذلك المال والجاه، الذي اشتهر أبو لهب به، لم يسعفه ولم يغن عنه يوم حاجته، وتحديداً يوم أن خرجت قريش لملاقاة المسلمين في بدر. فقد نفرت قريش وقام كل مقتدر على القتال بتجهيز نفسه، ومن لم يرد الخروج لسبب أو آخر، قام بتجهيز الجيش أو دفع مالاً لآخر ليقوم مقامه في المعركة، وكان أبو لهب من أولئكم المتخلفين أو الباحثين عن أي عذر لعدم الخروج؛ حيث دفع مالاً لمن يقاتل نيابة عنه، خشية أن يُقتل في بدر، وهو يعلم أن أذاه للنبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) في مكة لن يمر مرور الكرام، ولا بد أن دعوة منه (عليه الصلاة والسلام) ستصيبه عاجلاً أم آجلا، وهذا ما كان فعلاً.

انتهت المعركة بمقتل صناديد قريش وكبار المجرمين الذين آذوا الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) وصحبه أيما إيذاء، وانتشر الخبر المحزن في مكة، وكأنما تنفس أبو لهب بعض الصعداء وهو يسمع خبر المعركة، إذ لم يكن معهم فيموت مثلهم. لكن هذا الرجل وزوجته هالكان لا محالة، ولن تغني عنهما أموالهما الكثيرة بأي صورة من الصور، وهذا ما ذكرته الروايات التاريخية، وتأكّد به ما عرفه الجميع من القرآن.

فقد أصاب أبا لهب مرضٌ معد انتشر في جسمه، جعل الناس تتجنبه، حتى أهله والمقربين منه، إلى أن هلك. وخاف أهله الاقتراب منه لدفنه خشية أن يصيبهم ما أصابه، فتركوه أياماً حتى تعفنت جثته، فما كان منهم إلا أن حفروا حفرة قذفوه فيها بواسطة عصي، ثم رموه بالحجارة من بعيد بدلاً من التراب، في نهاية بائسة مذلة، إذ لم يقدر أقرب المقربين إليه على إكرامه بدفنه، كما هو المعتاد مع أي ميت، تأكيداً لما قرره القرآن قبل سنوات، بأنه لن يغني عنه ماله ولا أولاده في تغيير نهايته الدنيوية؛ لينتقل بعد ذلك إلى عالم البرزخ، ينتظر بصورة وأخرى نهاية ستكون أكثر بشاعة في الآخرة، جزاء ما اقترفته يداه.

خلاصة قصة أبي لهب

خلاصة قصة أبي لهب – كما في سورة المسد- أن كل ذلك المال والجاه والصيت لم ينفعه، ولم يكن لذلك كله أي تأثير في دفع البلاء عنه، كما يقول الفخر الرازي في مفاتيح الغيب مفسراً آية {ما أغنى عنه ماله وما كسب}، فإنه لا أحد أكثر مالاً من قارون، فهل دفع الموتَ عنه؟ ولا أعظم ملكاً من سليمان، فهل دفع الموتَ عنه؟ وعلى هذا يمكن القول إن في الآية إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.

درس مختصر بليغ، خلاصته أن من يعادي الحق ويصطف مع الباطل، رغبة أو رهبة، ولا يستثمر عمره وماله وقوته في ما ينفع آخرته، فلا معنى لحياته! إذ لا قوتك ولا مالك ولا جاهك ولا منصبك ولا سلطانك ولا جيشك ولا حشمك وخدمك ولا أهلك أو قبيلتك.. لا شيء من ذلك ينفعك في آخرتك، إن كنت تؤمن بآخرة وبجنة ونار.. أعاذنا الله وإياكم من ناره، ورزقنا رؤية الحق حقاً فنتبعه، ورؤية الباطل باطلاً فنجتنبه.. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت

معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت

منذ طوفان الأقصى، ومواقع التواصل تحتفي بأخبار إبداعات أهل غزة، ومبادراتهم التي تنهض وسط الإبادة والحصار، وتطرق جدران الخزان لتبعث برسائل التحدي، بهدف إظهار تمردهم على الواقع الصعب الذي فرضه الاحتلال، وإعطاء الأمل للعالم في أن هذه الثلة الصابرة المحاصَرة المرابطة قادرة...

قراءة المزيد
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية! 

“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية! 

في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب النوبي الراحل "إدريس علي" صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية "بلال"، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة "إدريس" نفسه. "بلال" باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة "التهميش"، أحب...

قراءة المزيد
نموذج البطل

نموذج البطل

بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ...

قراءة المزيد
Loading...