متى يصبح الانتحار حلًّا؟

بواسطة | يونيو 7, 2024

بواسطة | يونيو 7, 2024

متى يصبح الانتحار حلًّا؟

لا عجب أن يصبح هذا السؤال محل بحث وتمحيص، فمصر قد شهدت 2584 حالة انتحار خلال عام 2021، وفقًا لإحصائية صادرة عن مكتب النائب العام، وتؤكد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أنه على مدار السنوات الثلاث، كانت أكثر الفئات العمرية انتحارا فيها هي فئة الشباب، خاصة من هم في العقدين الثاني والثالث من حياتهم!

هذه الأرقام الرسمية تدفعنا لسؤال عن نوع الحياة التي ودّعها صاحبها ناقمًا كارهًا! وصار من العبث أن ندير ظهورنا عن السبب الذي يدفع بهؤلاء إلى كتابة الفصل الأخير من قصتهم على عجل، ويختمون مشوارهم بشكل مأساوي، لا سيما وأن كثيرًا ممن يقفزون من قطار الحياة يأخذون قرارهم هذا على مهل، ويكون التنفيذ – رغم مفاجأته للمحيطين بهم – أمرًا مفروغًا منه، ما يعني أن المنتحر لا يموت إلا بعدما تموت بداخله كل بواعث الأمل، وتتحطم لديه جميع سبل المقاومة والتحدي.

في عام 1965 حاول الباحث الأميركي مارتن سليجمان (SLEIGMAN) – والذي صار فيما بعد مؤسسًا لما يعرف بعلم النفس الإيجابي- أن يبحث عن الأسباب التي تدفع البعض إلى الانكسار في الحياة.. شغلت باله كثيرًا فكرة العجز التي تسيطر على الناس، وتمنعهم من التحدي والمقاومة، ومن ثم تسلمهم في الأخير إلى العيش على هامش الحياة، سلبيين، ناقمين، متذمرين، أو تدفعهم إلى وضع نهاية لحياتهم ومستقبلهم عبر الانتحار.

أتى الرجل بكلب وحبسه في قفص حديدي، ثم بدأ في تعريضه لشحنات كهربائية عنيفة.. بطبيعة الحال حاول الكلب أن يهرب من ذلك العذاب، لكن القفص المُحكم أفقده أي أمل في النجاة. تكررت التجربة إلى أن استسلم الكلب تمامًا للعذاب، حتى عندما تُركت أبواب القفص مفتوحة لم يحاول الكلب أن يهرب، لقد وقر في داخله أن لا سبيل للنجاة، وأن الألم والعذاب لا محالة واقعين!.

حلل “سليجمان” الأمر بأن الكلب تعلم الاستسلام للصدمة، أغلق داخله باب الأمل في النجاة، فكان رد فعله على العذاب هو أن يضع ذيله بين قدميه خائفًا، منتظرًا الساعة التي يمل فيها صاحبه من تعذيبه والعبث به؛ والأكثر دهشة من هذا أن الكلب صار انهزاميًا حتى خارج القفص، لم يعد يعض أو ينبح أو يقاوم عندما يتعرض للأذى، لقد اكتسب صفة العجز والانهزام.

من هنا ولدت نظرية “العجز المكتسب” أو العجز المُتعلّم؛ تلك النظرية التي تُرجع التقهقر والانهزام إلى قناعة داخلية، تولّدت وكبرت من جراء التعرض المتكرر للهزائم والكبوات.. قناعة أن محاولاتنا لتغيير الواقع السيئ لن تزيدنا إلا فشلًا وإحباطًا، ومن ثم فالاستسلام التام، والتأقلم مع الأمر الواقع، هو أسلم الأمور وأكثرها راحة!. وللأسف الشديد، لا يتعلق الأمر فقط بالكلب، ولا يقف عند حدود الحيوانات التي لا تملك عقلًا وتدبيرًا، وإنما لاحظ “سليجمان” أن بني البشر أيضًا لديهم هذا الميل إلى اكتساب العجز وتعلمه!.

الصدمات المتتالية.. قسوة الواقع.. التربية غير المنضبطة.. المدارس التي تعلمنا أي شيء إلا النضج.. ضف فوق هذا التجارب القاسية التي قد يتعرض لها المرء من ظلم أو تعدٍّ.. كل هذا قادر على أن يجعل خوفنا من الفشل هائلًا، ورهبتنا من المحاولة دافعًا جوهريًا للسكون والرهبة والارتباك الدائمين؛ وعند هذه النقطة يبدأ البشر في التساقط، إما نفسيًا وأخلاقيًا، فترى الواحد منهم قد أنس الذل وتعوّد عليه، وفقد أي قدرة على دفعه ورفضه؛ أو جسديًا، حيث يذهب البعض الآخر إلى إنهاء حياته علّه يُنهي معها عذابه وألمه الدائمين.

الأخطر من كل هذا أن يصبح “العجز المكتسب” قانون حياة بالنسبة للعاجز، فنراه يرفض التغيير الذي من شأنه أن يرفع الظلم الواقع عليه، ويلجأ مختارًا إلى الظالم، يطوف حوله كطواف العابد حول كعبته، يشعر بغربة نفسية حين تعطيه حريته لبعض الوقت، يرتبك إذا ما وضع في بيئة صحية نظيفة!.

ولدينا في التاريخ القريب حدث هام في هذا الباب.. فعندما قام الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن بإلغاء الرق والعبودية في أميركا عام 1865، لوحظ أن هناك عددًا لا بأس به ممن تحرروا من الرق قرروا العودة إلى ساداتهم مرة أخرى، إنهم لم يستطيعوا أن يتعايشوا مع فكرة كونهم أحرارًا، يملكون حق تقرير مصائرهم، وأن عليهم أن يتخذوا قرارات تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم.

ما الحل إذن؟.

إننا لن نستطيع أن نزرع الأمل في النفوس، ولن نقدر على تقديم يد العون لشخص قرر أن يعيش عاجزًا، ما لم نتفهم حالته ابتداءً، نتفهم مدى البؤس المحيط به.. بلا شك، أنت تدرك جيدًا الفرق بين أن نتفهم وأن نقبل.

الأولى تعني أننا نتعامل مع شخص معتل، وفهْمنا له سيدفعنا إلى عدم رفضه، حتى وإن رفضنا سلوكه، ما سيجعل تعاملنا معه أشبه بتعامل الطبيب مع المريض، نحتمل عوار منطقه، وشطحات تفكيره، وانغلاق ذهنه عن إدراك المنطق السديد.. ثم نأتي إلى المرحلة الثانية، وهي إشعال فتيل الأمل بداخله، مخاطبة المشاعر في المقام الأول، وضعه أمام حقيقة أنه وُلد حرًا فلا يجب أن يقبل الذل، خُلق لغاية فلا يحق له أن يعيش من أجل تحقيق غايات الآخرين، جاء لهدف، ومن الخيانة أن يبيع حياته بثمن بخس، ويرحل عن الحياة صفرًا من الخير والصلاح. وعندما يتسلل شعاع الأمل إلى نفس اليائس سيصيب عجزه المكتسب زلزال التشكك، وسيصبح أمر تمرده ورفضه مسألة وقت .

إننا وإن كنا نرفض الانتحار الجسدي كونه خيانة لأمانة الله، وسوء ظن بحكمته وتدبيره، فإننا بحاجة إلى فهم أن حولنا كثر قد انتحرت إرادتهم، وشنقوا بحبال عجزهم المكتسب دوافع الهمة والإصرار لديهم، وهؤلاء يا صاحبي بحاجة إليك.. بحاجة إلى خطاب غير خطاب اليأس، بحاجة إلى رؤية أنموذج حقيقي يستلهم منه الأمل والتحدي.

وأختم معك بواقعة حدثت لي قبل أعوام وعلمتني الكثير ..

كنت وقتها في زيارة إلى أحد المراكز الخاصة بالمكفوفين، يومها وقفت أتحدث عن الإصرار والعزيمة، كنت أحاول التخفيف من وجع أصدقائي ممن لا يملكون القدرة على أن يُبصروا ما أُبصره، أو هكذا كنت أظن.. حينها وقف أحدهم وابتسامته الهادئة تنير وجهه قائلا لي:

شكر الله لك كلامك يا سيدي، ولكن ..إن كان عجز البصر يُضعف حركتنا، فعجز البصيرة يشل حركة الملايين ممن يركضون في الحياة.

يا سيدي.. نحن في عجز اختاره الله لنا، وما لنا له دفع إلا الصبر، ولكن ما بال العجزة الذين اختاروا عجزهم بأنفسهم؟!

أليس موات الهمة عجزًا؟ أليس التصفيق للباطل عجزًا؟ أليس الرضا بالقعود عن بلوغ الغاية عجزًا؟ أليست إدارة الظهر عن نصرة المظلوم عجزًا؟!.

عزاؤنا يا سيدي أن عجزنا لا نحاسَب عليه ويحاسبون، ولا نؤاخذ به ويؤاخذون، ولا نُعذَّب به ويُعذبون .

يكفي أننا نقول “الحمد لله”، ولا يقولون ..

1 تعليق

  1. حفصة

    بوركت سيدي و بوركت جهودك

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...