محصّلة حرب البرهان وولد حمدان

بواسطة | يونيو 21, 2023

بواسطة | يونيو 21, 2023

محصّلة حرب البرهان وولد حمدان

كل من رصد مجريات الأمور في السودان، بعد سقوط حكومة عمر البشير في أبريل من عام 2019، وصعود عبد الفتاح البرهان رئيسا لمجلس عسكري تولى رئاسة الدولة، ثم رئيسا لمجلس السيادة (الرئاسة)، مستصحبا في الحالتين قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبا له، يستنتج باستقراء ما صدر عنهما من خطب وقرارات، أن كلّاً منهما معنيٌّ فقط بالبقاء في أعلى مراقي السلطة!. وقد ظلا طوال ما يقرب من أربع سنوات حليفين يسند كل منهما الآخر، في مواجهة قوى مدنية كانت تنشد إبعاد العسكرتاريا من دهاليز الحكم تماما؛ حتى أن البرهان، وهو الذي تسنم أيضا منصب القائد العام للجيش، سمح لولد حمدان (حميدتي) بتعزيز قواته وتمديدها أفقيا ورأسيا، بحسبان أن في ذلك ضمانة له ضد أي تحرك محتمل مناوئ له من الجيش الوطني.

دخلت حرب السودان شهرها الثالث، وعلى الأرض فإن النتيجة هي، القوات المسلحة: صفر- الدعم السريع: صفر، لأن أيّاً من الطرفين لم يحقق فيها نصرا -ولو جزئيا- يستوجب الاحتفال والتهليل

لكن، وكما أن مساعد القبطان يحس في مرحلة ما بأنه أجدر بمنصب القبطان الأعلى، تضخمت “الأنا” عند حميدتي؛ إذ إنه حاز رتبة “فريق أول” العسكرية، وهو الذي لم ينل حظا من أي نوع من التعليم النظامي أو العسكري، ثم صار نائبا لرئيس الدولة متخطيا آلاف العسكريين ذوي الرتب المستحقة بالدراسة والممارسة، ومتخطيا السياسيين المحترفين، فتبع ذلك أن صبا إلى رئاسة الدولة منفردا. وبهذا كان الصدام بينه وبين البرهان حتميا، لأن الأخير أيضا كان يصبو إلى البقاء في أعلى هرم السلطة منفردا، تحقيقا على الأرض- على ذمة تصريح صحفي له- لرؤيا منامية لوالده، بأنه سيحكم البلاد (كان ذلك في أول لقاء تلفزيوني له، بعد أن صار رئيسا للمجلس العسكري الحاكم، مع الصحفي ضياء الدين بلال).
حسب المعلن، اشتعلت الحرب الدائرة في السودان الآن لأن حميدتي، من وجهة نظر البرهان، يرفض وجود جيش واحد يتأتَّى بدمج قواته في الجيش الرسمي؛ بينما يزعم حميدتي أنه يخوضها لإبعاد البرهان عن الحكم بأيلولة الأمور لسلطة مدنية بالكامل؛ ولكن جوهر الخلاف بين الطرفين في الحقيقة شخصيّ قطباه البرهان وولد حمدان. ولم يكن صعبا على الأول جر الجيش الى المعركة، فقد ظل العسكريون النظاميون يتذمرون في الصمت والعلن من تنامي قوة الدَّعَّامة (وهي التسمية الشعبية لمنسوبي قوات الدعم السريع)، عددا وعدة، وإرغام ضباط من مختلف الرتب لأداء التحية العسكرية لحميدتي الذي يسبق اسمه حرفا “ف. أ.”، اللذان يرمزان على الأوراق الرسمية لـ”فريق أول” بينما يرمزان حقيقة لـ”فريق افتراضي”؛ ومن جهة أخرى، فقوات الدعم السريع ذات أساس وجذر قبلي، والولاء فيها معقود لحميدتي ورجالات آل دقلو، الذين يغدقون على جندهم العطايا من حصائل الذهب الذي احتكروا التنقيب عنه وتهريبه.
دخلت حرب السودان شهرها الثالث، وعلى الأرض فإن النتيجة هي، القوات المسلحة: صفر- الدعم السريع: صفر، لأن أيّاً من الطرفين لم يحقق فيها نصرا -ولو جزئيا- يستوجب الاحتفال والتهليل، وإن كانت خسائرهما في الأرواح والعتاد كبيرة، بعضها مرئي ومعظمها مخفي؛ ولكن ما تشهد عليه حواس النظر والسمع هو أن الملايين من سكان العاصمة السودانية وإقليم دارفور، هم من يدفعون ثمن الحرب الباهظ، فالخسائر في أرواح المدنيين صارت بالآلاف، واضطر مئات الآلاف من أهل دارفور إلى اللجوء إلى  تشاد وأفريقيا الوسطى وجمهورية جنوب السودان، بينما نزح زهاء مليونين من سكان العاصمة إلى أطراف البلاد، واتجه عشرات الآلاف إلى الجارة “الشقيقة” مصر، التي تربطها بالسودان اتفاقية الحريات الأربع الموقعة عام 2004، والتي تكفل حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك لأهل هذا البلد في ذاك البلد، فإذا بمصر تجمد تلك الاتفاقية وتفرض على السودانيين الهاربين من الحرب رسوما مالية باهظة للحصول على “تأشيرة دخول”، وتبتدع ما أسمته بالموافقة الأمنية من سلطاتها نظير رسم بالدولار الأمريكي، للبت في أهلية الحصول على تأشيرة، وبهذا يتعين على كل هارب من جحيم الحرب في الخرطوم أن يبقى في العراء عند النقاط الحدودية لشهر او لما يزيد عن الشهر، للفوز بحق الدخول إلى مصر.

يردد البرهان عبر ما يتيسر له من وسائل إعلام أن الحرب عبثية، ولا يفتأ حميدتي يردد أن الخاسر الأكبر في الحرب هو الشعب السوداني

على الأرض تعرضت كافة الأسواق في الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان للحرق التام، وتم إغلاق أكثر من 70% من المشافي والمراكز الصحية في تلك المدن، وتعرضت عشرات المصانع للدمار التام، وآلاف المساكن للاحتلال والتجريد من المقتنيات بعد أن اجتاحتها قوات الدعم السريع وفي إثرها عصابات اللصوص، وصارت البقالات التي نجت من الدمار في الأحياء السكنية خالية من المواد التموينية الضرورية، وهناك أحياء سكنية انقطعت عنها خدمات الماء والكهرباء منذ شهرين، وسيُضيع طلاب السودان عاما دراسيا كاملا على الأقل، لاستحالة تنظيم امتحانات الشهادة الثانوية لهذا العام، بينما لحق دمار كامل بمدينة الجنينة الواقعة قرب حدود السودان مع تشاد، وما زالت الحمم تتساقط على سكان مدن كُتُم وزالنجي ونيالا في دارفور، وستكتمل حلقات الكارثة بفشل الدورة الزراعية الصيفية، لانعدام التمويل والسماد والمبيدات والوقود اللازم لتدوير مضخات الري والآلات الزراعية.
يردد البرهان عبر ما يتيسر له من وسائل إعلام أن الحرب عبثية، ولا يفتأ حميدتي يردد أن الخاسر الأكبر في الحرب هو الشعب السوداني، ومع هذا يواصلان حث جنودهما على الاقتتال داخل المدن، وقد ظل السودان موسوما طوال آخر عقدين من الزمان بأنه دولة هشة، لانعدام كفاءة الدولة في أداء مهامها الأساسية، وقد وصل اليوم الى مرحلة “اللادولة”؛ وإذا استمر الاحتراب، فإن كل طرف سيسعى لاستقطاب حلفاء من حملة السلاح، في بلد فيه تسعة جيوش أخرى “قطاع خاص” يزعم كل واحد منها أنه “حركة تحرير”، ولكل واحد منها أجندته الإقليمية وكفلاؤه الإقليميون.
كل ذي حس وطني سليم في السودان يريد للقوات المسلحة الرسمية أن تنتصر على الدعّامة، الذين هم قوات الدعم السريع، ولكن أداءها حتى الآن لا يبشر بنصر قريب لها، وإزاء ذلك لا يملك السودانيون سوى الدعاء بأن يرفع الله عنهم البلاء، ويريحهم من الدعّامة كما أراحهم من “الكمامة”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...