مروي.. المبتدأ والخبر في أزمات السودان وتاريخه

بواسطة | أبريل 20, 2023

بواسطة | أبريل 20, 2023

مروي.. المبتدأ والخبر في أزمات السودان وتاريخه

“مروي” مدينة أدخلتها الأحداث للإعلام، بعد أن لم يكن اسمها معروفا لكثيرين خارج السودان، لكنها تختصر تلاقي التاريخ بالحاضر، بين قاعدتها الجوية وأهراماتها؛ فقد انطلقت الأحداث الأخيرة من قاعدتها الجوية، أما أهراماتها فتخبرك أن مروي كانت عاصمة مملكة نوبية وثنية امتدت في القرون الأخيرة قبل الميلاد، وانتهت في القرن الرابع الميلادي عندما غزاها عيزانا، ملك أكسوم، فمحاها، وخلد انتصاره على النوبة في مسلة عظيمة.
واليوم تعود للتاريخ بواقعة تفجرت فيها تناقضات السودان، وأزماته كلها. وبين قاعدة مروي الجوية وأهرام مروي العريقة، يبدو السودان بلدا محيرا؛ فتاريخه لم يكتشف بالكامل، وقلما غزاه غاز بالقوة القاهرة، واستمر أثره فيه؛ ولكن أزماته وضعفه كامنان فيه، فلا ينهار إلا من داخله، ومن عجب أن من يغزوه بالقوة الناعمة يترك بصمته وتبقى. فعيزانا غزا ودمر مروي، ولم يترك أثرا فيها، بينما دخلت العروبة تحمل الإسلام متمهلا، فبقي وازدهر.

انتشرت قوات الدعم في قاعدة مروي الجوية. والأمر حساس للغاية، لأن التحكم بالقاعدة يعني امتلاك زمام السيطرة على طريق الإمداد مع العالم، والتحرك بمرونة في شمال السودان وشرقه

ما الذي حدث في اليوم الأول؟
كأي حرب ضروس، تتضارب الروايات، لكن أحداث الأربعاء توترت، وتضاءلت خيارات دمج قوات الدعم في الجيش؛ بينما كان الجيش يميل أكثر لإنهاء حالة سيفين في غمد واحد. ومع تأييد قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) للاتفاق الإطاري، لحاجته لحاضنة سياسية تحمل آماله، ألح البرهان على دمج الدعم السريع ضمن ورقة الإصلاح للمؤسسة العسكرية، وإلا فإنه لن يوقع الاتفاق.
وانتشرت قوات الدعم في قاعدة مروي الجوية. والأمر حساس للغاية، لأن التحكم بالقاعدة يعني امتلاك زمام السيطرة على طريق الإمداد مع العالم، والتحرك بمرونة في شمال السودان وشرقه؛ كما أن الأمر تم دون تنسيق مع الجيش، وصاحبه رفض شعبي واسع في مدينة مروي.
ولم تُجدِ وساطة الحركات المسلحة، وبدت تهدئة الجمعة تخديرا موضعيا، وتمهيدا لتخطيط ما. لكن من أطلق الرصاصة الأولى؟
الرصاصة الأولى .. تخطيط أم مباغتة؟
هناك ثلاث فرضيات تتحكم في حكاية الرصاصة الأولى:
– مبادرة الدعم بالهجوم: وتعززها الحشود السابقة قبل أسبوع في نقاط استراتيجية، ثم اشتباكات المدينة الرياضية، وسيطرة الدعم على القصر والإذاعة والتلفزيون، ومحاصرة القيادة العامة للقوات المسلحة، والاشتباك في قاعدة مروي الجوية. وفي الوقت ذاته، فإن الجيش كان متيقظا بشكل كافٍ، وبادر بالرد وهاجم، وتصرف بكفاءة، وضرب معسكرات الدعم بسرعة.
– مبادرة الجيش بالهجوم: وتعززها بيانات القوات المسلحة، التي حذرت الدعم السريع من الانتشار غير المسؤول، ومسارعة الجيش نحو معسكرات الدعم في المناطق المحيطة بالخرطوم، علاوة على ارتباك حميدتي في الحديث في الساعات الأولى، حيث بدا مرتبكا، واستخدم السباب والشتائم لأول مرة في حديثه.
– مبادرة طرف ثالث مجهول: هذا الطرف الثالث اشتبك مع الدعم، وجره للقتال، واضطر الجيش لاتخاذ سياسة دفاعية.
وبتقديري فإن الخيار الأول حتى الآن هو المرجح، خاصة مع التحشيد المسبق للدعم السريع في عدة مواقع استراتيجية، وفي عدة أماكن حيوية، ويبدو أن الجيش أراد المبادرة بالهجوم، لكن وقائع قاعدة مروي حدثت، وانطلقت الرصاصة الأولى في المدينة الرياضية، وارتبكت حسابات حميدتي.

طبيعة الصراع الصفرية تجعل حسمه مرهونا بمصرع القيادة في أحد الطرفين، بينما يمتلك الجيش ميزة هامة، وهي أنه مؤسسة ذات طبيعة احترافية.

مسارات وآفاق الصراع:
حتى الاثنين كان الوضع -عمليا- مفتوحا، ولكنه الآن يتجه للحسم، وإن طال، فالجيش السوداني يمتلك الاحترافية الكافية، والقدرة على الردع، والتخطيط الاستراتيجي، بينما يمتلك حميدتي والدعم السريع القدرة على المناورة، واستغلال السواتر، والقتال التكتيكي الفعال.
طبيعة الصراع الصفرية تجعل حسمه مرهونا بمصرع القيادة في أحد الطرفين، بينما يمتلك الجيش ميزة هامة، وهي أنه مؤسسة ذات طبيعة احترافية. فلو فرضنا أن البرهان قتل، فثمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي ينتخب حسب الأقدمية والأولوية بديلا فوريا له، ليواصل المهمة بذات الرؤية. في حين أن قوات حميدتي مبنية على الولاء لفرد بعينه، وليس حتى لقبيلة كاملة.
ومن ناحية أخرى، فإن احتمالات القتال القبلي قد انتهت ضمنيا بمجرد إعلان ناظر عموم الرزيقات الأمير محمد إبراهيم مادبو، والذي أيد فيه الجيش، ودعا أبناء قبيلته للتسليم للجيش، وكذلك نظارة البجا، والعموديات المستقلة الذي أيد الجيش كذلك. وأما بالنسبة للحاضنة الشعبية، فموقف كثير من السكان كان غير مرحب بالدعم السريع أساسا، وخرجت مسيرات كثيرة في الدمازين وسنار وبورتسودان، تؤيد الجيش وتدعمه. وموقف حميدتي في دارفور مهزوز ومرتبك، وبهذا فالصراع المحصور الآن في الخرطوم، سينتهي طال أم قصر، لو أُحسنت إدارته من قبل الجيش، فهي حرب مدن ليست يسيرة أبدا، وتحتاج في حسمها لحل جذري قاطع.

بقي أن ينجلي دخان المعارك سريعا، وتعود الحياة لنصابها. ويبقى الجيش السوداني واحدا، ومؤسسة احترافية قادرة على العطاء والدفاع عن الوطن

الموقف السياسي:
أصبح الاتفاق الإطاري في طي الماضي، أما قوى الحرية والتغيير، فحتى لو كسب حميدتي الرهان وفاز بالمعركة، فإنها حصان طروادة، ولن تستطيع التقدم للأمام في انتقال ديمقراطي. أما الرابحون في حال فاز الجيش كما تؤكد المرجحات الآن، فهما الحزبان التقليديان، الأمة والاتحادي الديمقراطي، وكذلك الحركات المسلحة الدارفورية وحركات النيل الأزرق. أما بالنسبة للوضع الإنساني، فإن التجربة التي خاضها سكان الخرطوم في هذه الفترة، ستبني وعيا كبيرا لديهم بأهمية السلام، وستعزز الرغبة في بناء دولة القانون، واحترام الإنسان كقيمة في الأساس، وستعزز كذلك مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل في الحقل الإنساني.
بقي أن ينجلي دخان المعارك سريعا، وتعود الحياة لنصابها. ويبقى الجيش السوداني واحدا، ومؤسسة احترافية قادرة على العطاء والدفاع عن الوطن، بغير تقديس لأشخاص، وبعقيدة وطنية راسخة، ويبقى -كما كان دائما- مصنع الرجال، حسبما يلقبه السودانيون.
سيبنى السودان بيد أبنائه جميعا، أحفاد السمر، أبناء الشمس.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...