مقدار كاف من السعادة!

بواسطة | ديسمبر 9, 2023

بواسطة | ديسمبر 9, 2023

مقدار كاف من السعادة!

في دراسة علماء النفس في الثمانينيات حول مستوى السعادة، تكشف النتائج عن تفاصيل مفاجئة تتعلق بطبيعة السعادة لدى البشر. يبرز أن المفتاح ليس فقط في تحقيق الأهداف والرغبات ولكن أيضًا في فهم فلسفة المعاناة وتقدير السعادة المتوازنة.

حقيقة السعادة: بين مقياس الابتلاء ومعنى الرضا الدائم

في دراسة أجراها علماء النفس في الثمانينيات لقياس مستوى السعادة لدى البشر، قاموا بإعطاء مجموعة كبيرة من المتطوعين جهاز «بيجر»، وطالبوهم بأن يتوقف كل واحد منهم فورًا حين يرنّ الجهاز، ويجيب عن سؤالين: الأول هو «على مقياس واحد من عشرة، ما مستوى سعادتك في هذه اللحظة وليس بشكل عام؟»، والآخر هو «ما الذي يحدث حولك الآن، أو تقوم بفعله؟».
الإجابة يمكن أن تكون مثلاً: أنا في العمل وعندي ضغوط، ومستوى شعوري بالسعادة (4)؛ أو: أنا مع فتاة أحلامي الآن، وسعادتي (10)؛ أو:أنا في مشفى لزيارة أمي، وسعادتي (1)؛ أو: أقوم بالتسوق، وسعادتي تقييمها (6).. وهكذا. وقد جرى هذا الاستبيان على فترة غير قصيرة وشارك فيه المئات بتنوعهم؛ وكانت الإجابات مثيرة للعجب، ذلك أنه لطالما تكرر لدى غالب المشاركين تسجيل الرقم (7) في الإشارة إلى درجة السعادة، مهما تغيرت الأشياء التي يفعلونها، والأحداث التي تدور حولهم!
بلا شك، كانت الدرجة ترتفع لتصل إلى «9» أو حتى «10» حينما يحقق الشخص إنجازًا يُسعده، وقد تهبط إلى «2» أو «0» عندما تمر به كبوة أو فاجعة، لكنها بعدة فترة تعود لتستقر عند الرقم «7»؛ اللهم إلا في حالات نادرة كفقدان طفل مثلًا، أو فاجعة مزلزلة.
كانت الدلالات التي يعطينا إياها هذا البحث تعني عدة أشياء مهمة:

  • أولًا: أنْ لا أحد سعيد أو شقيّ طوال الوقت، عامل النظافة كأستاذ الجامعة تتأرجح درجات هنائهم بشكل متشابه، وتتلون مشاعرهم وأحاسيسهم على مدار الأيام.
  • ثانيًا: أن الناس، وبعيدًا عن ظروفهم الخارجية، في الغالب يعيشون ضمن حالة ثابتة من السعادة المقبولة بيد أنها غير مُرضية تمامًا، أو أنها -بمعنى آخر- يمكن دائمًا أن تكون أفضل. وهو ما فسَّره عالم النفس بجامعة هارفارد “دانييل غيلبرت”، بأنه يشبه جهاز المناعة النفسي، ذلك أنه بغضّ النظر عما يحدث لنا، فإن مشاعرنا وانفعالاتنا وذكرياتنا ومعتقداتنا تتأقلم وتُعدّل نفسها بحيث تحافظ على مستوى لسعادتنا، وإن لم يكن كاملًا.
  • ثالثًا: وهو ما ذهب إليه الكاتب “مارك مانسون” في كتابه «خراب»، من أن الحياة ليست أكثر من قفزات صغيرة إلى أعلى وإلى الأسفل، غير أن درجة الراحة رقم «7» التي نحاول الاستقرار عندها، دائمًا ما تخدعنا بحيل صغيرة لكنها مزعجة، وهي أن دماغنا يقول لنا: «إذا تمكنتُ من الحصول على المزيد، على مقدار صغير أكثر، فسوف أصل إلى المستوى «10» آخر الأمر، وسوف أظل عنده». والنتيجة أننا نُطارِد العشرة كل يوم، فتظن أنك ستصل إلى السعادة الكاملة عندما تشتري بيتًا بعينه، فتشتريه وتصل إلى درجة «10»، غير أنك تعود ثانية -سواء طال الوقت أم قصر- إلى مرتبة «7»، وتعود الحيلة لتفرض نفسها على ذهنك الذي يستجيب ويرى أن السيارة التي لطالما حلمت بها هي آخر الأمر، وتحصل عليها وترتفع درجة سعادتك لفترة، ثم تعود لتنشئ حلمًا جديدًا.
    أنت في كل مرة تطارد الرقم «10»، لكنك لا تنتبه أنك إنْ وصلت إليه فستستمتع ثم تعود لمرتبة «7»، وإذا لم توفَّق فربما تهبط إلى رقم «ثلاثة»، لكنك ستعود مرة أخرى إلى رقم «7»!. وتلك التي يسميها أهل التخصص «الحلقة المفرغة من البهجة»، التي ندور فيها مطارِدِين الرقم «10»، قبل أن نستقر غالب حياتنا في المنطقة «7»!.
  • رابعًا: ما دامت الإجابات تؤكد أن السعادة المطلقة الدائمة أمر لا ينبغي التفاني من أجل الوصول إليه، والتعاسة القائمة الأبدية أمر غير وارد، فيجب إذن إعادة النظر في محاولات «تسليع السعادة» التي يتم القيام بها، ومحاصرتنا بنتائجها! فبحسب ما أكدت مجلة «الشخصية وعلم النفس الاجتماعي» في عددها الثامن لعام 1978، في طيات مقال بعنوان «الفائزون باليانصيب والضحايا العَرضيون، هل السعادة أمر نسبي؟» فإن «من يربحون الملايين من اليانصيب ويصبحون أثرياء فجأة، يرجعون بعد فترة إلى نفس شعورهم النفسي قبل الفوز بالجائزة؛ وكذلك فإن من يصابون بالشلل مثلًا من أثر الحوادث لا يصبحون في درجة سعادة أدنى على المدى البعيد، المدهش أن حالتهم النفسية وإحساسهم بالسعادة يصل إلى الدرجة ذاتها التي كانوا عليها قبل الحادث»!.
    هذه هي الحقيقة المجردة إذن، أنْ لا شيء خارجي، مبهجًا كان أو تعيسًا، قادر على أن يهبنا السعادة المطلقة، أو حتى أن يُفرغ حياتنا من الهناء! فلماذا نصدق إذن أن هناك وجبات من السعادة تَعِدنا بالمكوث في القمة وتُطمئننا إلى الابتعاد عن الانحدار في مصفوفة السعادة تلك؟ لماذا نصدق أن «شيئًا ما» سيجعلنا نصل إلى منتهى مطالبنا؟!
    أنا أعلم أن البعض صار أكثر حساسية حينما يتم طرح شاهد ديني يؤكد المعنى، وعليه فلن أطيل في تأكيد أن الفلسفات الدينية -بل الروحية كذلك- حسمت ما نقوله منذ زمن، وأن النبي محمدًا (ﷺ) كان واضحًا وهو يؤكد أن لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لاشتهى ثانيًا، وثالثًا، وأنْ لا شيء يملأ عينه مهما كان.
    «مطاردة السعادة» فخٌّ تصنعه أذهاننا، وتتم إعادة تصنيعه في كل مكان.. أوسكار وايلد كان عبقريًّا حينما أكد أن السعادة الحقيقية تأتي حين لا تبحث عنها، ذلك أن السعادة تكره من يُقلق أمنها بالأسئلة السخيفة التي تشكِّك فيها، بل ذهب إلى مصارحة الناس بالحقيقة المُرّة، وهي أن هناك مصيبتين يمكن أن تحدثا لك في الحياة؛ الأولى ألا تحصل على ما تريد، والأخرى أن تحصل عليه! لأنك ستدرك حينها أن ما توهّمْتَه لم يكن صحيحًا، وأن هناك «شيئًا جديدًا» قد تم خلقه في ذهنك، وتصنيفه على أنه «شيء جالب للسعادة»!
    من جهة أخرى فإنه حتى الوجع، شيء محتوم علينا، والمعاناة أمر سيحدث يقينًا، ومهما كانت الكارثة كبيرة فإن جهازنا النفسي قادر على استيعاب الصدمة وإعادة الأمور إلى مستوى مُرضٍ من السعادة.
    وضوح هذه الدلالات يدفعنا إلى بعض التأمل الشخصي، ومحاولة مقاومة تيار السعادة المادية، وعلى الجانب الآخر يجعلنا متفهمين لفلسفة المعاناة، وأنه ما دمنا سنعاني يقينًا فعلينا على الأقل أن نقوم بشيئين في غاية الأهمية:
    الأول، أن نُعاني بحكمة! نبينا محمد (ﷺ) له هنا مقولة مهمة، ذلك أنه وبعدما أكد أن الابتلاء لا يعني دائمًا غضب الله، نصح أتباعه نصيحة قد تبدو دينية، لكنها نفس ما ينصح به علم النفس، وهي أن «مَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السخط»، حيث فهمُ الابتلاء هو الذي يخفف وطأته أو يثقلها، وتقبُّل المصيبة الواقعة أو رفضها هما مربط الفرس في تعاملك معها، بل في مستوى سعادتك.
    الشيء الآخر بعد المعاناة بحكمة، هو أن نجتهد لجعل معاناتنا ذات قيمة، أو بمعنى آخر أن نألم للأشياء التي تستحق الألم.. وجع المقارنات، وألم عدم التمكن من الحصول على شيء ما أو الوصول لمكانة ما أو فعل شيء ما، هي أشياء تحتاج إلى إعادة نظر وتأمل منك.
    وأنت بحاجة إلى طرح سؤالين هنا تحسم بهما الأمر:
  •  هل ما أظن أنه سيجلب السعادة سيجلبها حقًّا؟ وهنا يمكنك الاستعانة بتجاربك الماضية في الإجابة عن هذا السؤال؟ كم عدد الأشياء التي تمنيتها وحققتها وكان في يقينك وقتها أنها جالبة للسعادة الأبدية ثم فقدت جزءًا من قيمتها أو كلَّ قيمتها مع الزمن؟
  •  هل ما يسبِّب لي التعاسة يستحق ذلك فعلًا؟ يمكنك أيضًا الاستعانة بتاريخك، فلربما أجابك بأن ما أنت فيه كان حتى وقت قريب غاية المُنى، وأن إحباطاتك الحالية ظهرت مؤخرًا، فما الذي يضمن أنَّ تخلُّصك منها سيبدِّد التعاسة، ولا مانع من تأمُّل أحوال الناس من حولك، فكثيرًا ما كانت مصائب بعض الناس سلوى للبعض الآخر؛ وقد يحدث أن يدرك الواحد منّا حجم مأساته الحقيقي حينما يقارنها بمآسي الآخرين.
    ستكتشف حينها أن السعادة شيء غير ما نظنه، وأن ما نحن فيه ـ ربماـ أفضل مما ندعو ونتمنى! وأن للسعادة مقدار.. وسبب تعاسة الناس أنها تريد دائماً مقدارًا أكبر.
    هكذا نكتشف ببساطة -وغالبا بعد فوات الأوان- أنه لا يملأ عين ابن آدم إلا.. التراب!

1 تعليق

  1. د رجب يوسف عطيه

    بارك الله فيك
    مقالة وحكمة لمن له (بصيرة)
    لا أقول (عقل) بل (بصيرة) لأن كثيراً ما يخدعنا العقل للاسف

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
Loading...