ملاحظات نقدية وهوامش على ولادة الشرق الأوسط
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 24 سبتمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ...
-
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق...
-
لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!
لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر...
-
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في...
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 24 سبتمبر, 2023
ملاحظات نقدية وهوامش على ولادة الشرق الأوسط
حضرتُ الأسبوع الماضي محاضرة الأستاذ جمال باروت عن «مؤتمر لوزان»، وعلّق على المحاضرة الدكتور وجيه كوثراني، وكان نقاشا ثريّا عن تاريخ المنطقة وما دار فيها، ثم مرّت ببالي عناوين الكتب التي تتحدث عن هذه الفترة الحساسة من تاريخ البلاد العربية، أقصد فترة الحرب العالمية الأولى، وما نتج عنها من نتائج وأوضاع سياسية، جعلت بعضهم يعتبرها فترة ولادة الشرق الأوسط.
من أهم الكتب التي تحكي عن هذه الفترة كتاب دافيد فرومكين «سلام ما بعده سلام» من إصدارات دار «رياض الريس»، ويحكي الكتاب عن الشرق الأوسط، هذا الشرق الذي انبثق من قرارات اتخذها الحلفاء المنتصرون خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وفي الكتاب شرَع المؤلف في دراسة عملية اتخاذ القرارات في الفترة «1914-1922»، فقد كان عصرا اصطُنعت فيه بلدان الشرق الأوسط وحدودها؛ فالعراق، وما نسميه الآن الأردن، ظهرا بشكلهما السياسي في ذلك الوقت، بل إن المؤلف يعتبرهما «اختراعين بريطانيين»؛ وفي تلك الفترة أيضا نشأت حدود المملكة العربية السعودية مع جيرانها من دول الخليج. وفي عام 1912م كان ملك بريطانيا، جورج الخامس، يحكم رُبع مساحة اليابسة على الكرة الأرضية.
لعل غاية المؤلف هي إعطاء مشهد فسيح لما كان يحدث للشرق الأوسط بكامله، هكذا ينظر فرومكين إلى ما حدث باعتباره ذروة اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر، التي اكتملت بعد الحرب العالمية الأولى، وهو لا يُغفل الدور الروسي في القصة.
كنتُ كلما تناولت كتاب «سلام ما بعده سلام» من رف الكتب، انتابتني مشاعر متضاربة حيال طريقة المؤلف، فهو كاتب قدير يستطيع رسم صورة تاريخية بقلم رشيق، وبأسلوب قصصي وضع الكتاب على قائمة الكتب التاريخية الأكثر مبيعا، خصوصا مع الترجمة الجميلة من دار «رياض الريس»، التي أغفلت وضع اسم المترجم على غلاف الطبعة الثانية من الكتاب، وهو الأستاذ أسعد كامل إلياس، الذي قدَّم ترجمة رائقة، لكن مع مزيد من القراءة أصبحتُ أرى في الكتاب عديدا من الإشكاليات التاريخية.
نقد «سلام ما بعده سلام»
سأحاول أن أضع نقدي في نقاط محددة:
أولا: يعاني الكتاب مركزية أوروبية في فهم تاريخ الشرق الأوسط، فالكتاب يبدأ بإيمان عميق بدور البريطانيين والأمريكان في تشكيل المنطقة على ما هي عليه، وهذا يجعل من القادة السياسيين في أوروبا متحكمين في مصاير المنطقة، فيما الشعوب العربية تظهر في شكل الخانع السلبي الذي لم يصدر عنه أي تفاعل تاريخي تجاه هيمنة غربية فُرضت عليه، والكاتب هنا يتجاهل فعل المقاومة لأهل البلاد ضد المحتل.
ثانيا: يقلل ديفيد فرومكين من قيمة الثورة العربية بوصفها «صناعة بريطانية»، ويفرد الصفحات لدور «لورانس العرب»، مهوّنا دور الشريف حسين وفيصل باعتبارهما استُخدما فيه، على الرغم من أن الثورة العربية يمكن النظر إليها بمنظور مختلف عبر دورها في الاصطدام مع الدولة العثمانية، وظهور إمارة شرق الأردن، وحكم فيصل وسلالته العراق، وغير ذلك من النتائج السياسية للثورة العربية.
ثالثا: لا شك أن القراء يحبون القراءة عن الأبطال وتاريخ الرجال العظماء، الذين قادوا وألهموا وتركوا بصمتهم على الحدث التاريخي، ولا أخفي محبتي السِّيَر، كما يعجبني البحث في جوانب عظمة الشخصيات التاريخية، لكن دافيد فرومكين يبني كتابه على دور الرجال العظماء «الأجانب» في التاريخ، إذ يقول: «إن لوريد جورج، ووودرو ويلسون، وكيتشنر الخرطوم، ولورانس العرب، ولينين وستالين وموسوليني أدوا أدوارا قيادية في الدراما، التي تتكشف أحداثها في كتاب سلام يُنهي كل سلام، وكانوا رجالا عملوا جاهدين لإعادة تكوين العالم في ضوء نظرتهم إليه». وفوق كل ذلك يبرز ونستون تشرشل على صفحات هذا الكتاب شخصيةً طاغية «بعثت عبقرية الروح في الأحداث، وقد صبغت شخصيته هذه الأحداث بصبغتها ومنحتها الحيوية».
ليس هذا فحسب، بل إنه بعد بضع صفحات يقول: «قُيّد لكل من تشرشل وهربرت أسكويث وزملاء لهما في مجلس الوزراء، كوزير الخارجية سير إدوارد غراي ووزير المالية ديفيد لويد جورج، وفيما بعد وزير الحربية اللورد كيتشنر، أن يؤدوا دورا حاسما في خلق الشرق الأوسط الحديث».
رابعا: بعد اكتشاف القارئ أن تاريخ ولادة الشرق الأوسط هو صنيعة القوى الكبرى «العالمة ببواطن الأمور»، حتى إن الثورة العربية «لم تكن مهمة»، وتاريخ الشرق الأوسط «صُنع بواسطة قادة من بريطانيا وفرنسا»، يكون الشعور الغالب هو غياب تاريخ الأهالي الذين عاشوا في الجزيرة العربية، أو في مصر، وغيرها من البلاد العربية، فحركات المقاومة التي قادها الأهالي لا تستحق الرصد والتحليل عبر هذا الكتاب، مثل دور الجنود في الثورة العربية، كوقوف السوريين ضد تقدم القوات الفرنسية في معركة ميسلون، وثورة 1919م في مصر، التي واجهت بريطانيا، وكلها حركات مقاومة وتفاعلات داخلية.
أما النقطة المهمة، إذا سايرنا الكاتب في بحثه عن المؤثرين من القادة والضباط في إدارة المنطقة، فهي: لماذا لم يدرس دور الضباط العرب الذين انشقوا عن الجيش العثماني وانضموا إلى الثورة العربية مثل: نوري السعيد وعزيز المصري وجعفر العسكري، رغم أن جعفر العسكري حضر مؤتمر القاهرة عام 1921، الذي رسم فيه تشرشل السياسة البريطانية في المنطقة؟.
ولا يكتفي فرومكين بذلك، بل يتجاهل دور بريطانيا في إصدار «وعد بلفور» المشؤوم، متَّهما الفلسطينيين بأنهم «باعوا أراضيهم»، هذه العبارة التي راجت عن قصد واشتُهرت بالباطل رغم أنها تجافي الواقع والحقيقة، وقد فنّدها كثيرون لاحقا.
خامسا: يركز دافيد فرومكين على دور كل شخصية أوروبية في المشرق العربي، من ضباط المخابرات إلى موظفي الإمبراطورية، مثل بيرسي كوكس، ومارك سايكس، الذي تشارك مع فرانسوا جورج بيكو في اتفاقية «سايكس-بيكو»، لكن الكتاب لا يتيح لنا سماع صوت العثمانيين، وجدالهم الداخلي حول الإمبراطورية، والأهم صوت الجنود العثمانيين في تلك الحروب، من معركة غاليبولي إلى كوت العمارة، التي برع في استنطاق حالها المؤرخ المرموق يوجين روغان في كتابه الممتع «سقوط العثمانيين»، إذ زار يوجين النصب التذكاري للجنود في «جناق قلعة»، ورأى خسارة بريطانيا 3800 رجل، كذلك نظر إلى خسائر العثمانيين التي بلغت 14000 بين قتيل وجريح في المعركة، ويوضح يوجين أن الكتب التي قرأها عن الجنود الإسكتلنديين، الذين فُقدوا في غاليبولي، لم تذكر الآلاف من قتلى الحرب العثمانيين.
لقد غادر يوجين النصب التذكاري وهو يشعر بمدى جهل الغرب بتجارب التُّرك والعرب في الحرب العظمى، فقد قدمت عشرات الكتب الصادرة بالإنجليزية شرحا عن الحرب بمنظور المركزية الأوروبية، وتناولت مختلف جبهات شرق المتوسط، لكن بتركيز على تجارب البريطانيين أو الحلفاء.
كانت غاليبولي تذكّر بهزيمة تشرشل، ومعارك «كوت العمارة» هي استسلام القائد «تاونسند»، الذي أُسِرَ ونُقل إلى إسطنبول، فيما الثورة العربية تستدعي صورة لورانس العرب، كذلك الصورة الأيقونية عند دخول الجنرال اللنبي إلى القدس.. هكذا يروم كتاب يوجين الخروج من تجارب بريطانيا والحلفاء إلى معرفة الجانب الآخر من تجارب الجنود العثمانيين والعرب، الذين حوصروا في شرك الكفاح اليائس للبقاء في مواجهة غزاة أقوياء.
سادسا: مأزق الكتابة التاريخية المنطلقة من عظمة الشخصيات في صناعة التاريخ تجاهلت جرائم هذه الشخصيات، وهذا ما يحدث على صفحات الكتاب بالصمت عن خسَّة الدور الأوروبي والطمع في البلاد العربية، وأود الإشارة هنا إلى كتاب «الفيلق المصري» للكاتب محمد أبو الغار، وكتاب «فرقة العمال المصرية» لكايل جون أندرسون؛ فقد قدم “الفيلق المصري” مثالا على جرائم الاستعمار البريطاني في فترة الحرب العالمية الأولى، بينما درس أندرسون في كتابه قصة العمال المصريين الملحقين قسرا بالقوات البريطانية في جبهات امتدت من تركيا إلى فرنسا، فقد زاد عددهم على 300 ألف، وانتهى الأمر بآلاف منهم قتلى في الحرب أو ضحايا تحت وطأة العمل القسري.
في الكتاب أيضا تجاهل لدور فرنسا في إفشال أي محاولة ديمقراطية مستقلة في سوريا عبر فرض الانتداب، وهنا يبرز كتاب إليزابيث ف. تومبسون، الذي صدر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب»، ترجمة محمد الأرناؤوط، إذ يركز الكتاب على لحظة فارقة نهاية الحرب العالمية الأولى، في المؤتمر السوري عام 1920م، وكيف دُمِّر التحالف التاريخي الليبرالي والإسلامي فيه، وخداع الحلفاء للعرب ولفيصل وسقوط المملكة السورية، وتبدُّد وعود الرئيس الأمريكي ويلسون بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتبرُّع إليزابيث في استنطاق المذكرات المعاصرة، التي كتبها أبطال المشهد، مثل مذكرات رستم حيدر، أحمد قدري، تحسين قدري، عوني عبد الهادي، فايز الغصين، وساطع الحصري، كذلك مذكرات الموظفين الغربيين، وهنا الاختلاف عن كتاب فرومكين، إذ يمكننا سماع صوت العرب في رواية تلك المرحلة، والكتاب أجمل بكثير من كتاب سيار الجميل الضعيف عن سيرة فيصل، الذي تحول إلى كتاب في مدح فيصل.
سابعًا: لدينا أحداث مهمة جرت في العالم العربي في الفترة «1914-1922م»، مثل سقوط العثمانيين وخروجهم من المشهد، وظهور دول جديدة على مسرح الأحداث، واتفاقيات دولية، لكن التعامل مع التاريخ واختزاله في تلك السنوات فقط أمر غير دقيق، فالتاريخ ديناميكي متحرك لا يثبت على حال، ولم يُحسم كثير من الأمور التاريخية، مثل حدود الدول، إلا في فترات لاحقة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وظهرت عوامل سياسية غيّرت شكل المنطقة، مثل تأثير ظهور النفط في تاريخ الخليج مثلا.
النقطة التي أودُّ لفت الانتباه إليها هي أن الدور الغربي أحيانا يأتي رد فعل على دور الأهالي في البلاد العربية، كتعيين الملك فيصل مثلا، إذ كان ردة فعل على ثورة العشرين في العراق.
علينا أن نقرأ الكتاب نقديّا عبر التفكير في أسئلة مهمة، مثل طبيعة الحكم العثماني للبلاد العربية، ولماذا ثار العرب على العثمانيين، وحالة الشعوب العربية، وشهادات من الجنود الذين عاشوا هذه الحروب والصراعات.. يمكن قراءة شهادة الجندي إحسان الترجمان لنرى فيها حالة الجوع وانتشار الجراد وقلة المحاصيل وحالة القدس في أثناء الحرب، ورأي الجنود في جمال باشا، ففي السنوات الأخيرة ظهر حنين للدولة العثمانية رغم كل الأخطاء التي حدثت في نهاية عهدها، فيما نرى تجاهلا لمغزى انضمام رموز فكرية، بعضها إسلامي مثل الشيخ محمد رشيد رضا، إلى الثورة العربية، وموقفهم النقدي من السلطة العثمانية، وتجاهل النقاشات الفكرية التي كانت تقيّم مزايا وعيوب الحكم العثماني، وهذا لا يقلل الخداع الغربي والطمع الاستعماري، لكن يبصرنا بصورة مختلفة لتاريخنا منذ مائة عام، إذ لم يكن تاريخ مؤامرات وخداع فقط، بل كان أيضا تاريخا فيه تدافُعٌ ظهر فيه كثير من المخلصين لأمتهم، مثل ساطع الحصري وشكيب أرسلان، وغيرهما من الأبطال الذين يتجاهلهم كتاب دافيد فرومكين.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
مع الهمجية ضد التمدن
يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون
بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...
أطفال غزة يصافحون الموت
إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...
0 تعليق