من أضاع لغته ضاع

بقلم: جعفر عباس

| 30 مايو, 2023

بقلم: جعفر عباس

| 30 مايو, 2023

من أضاع لغته ضاع

ظهور تطبيقات ما يُعرف بوسائل التواصل الاجتماعي، كشف إلى أي مدى صار كثيرون من الناطقين بالعربية، يفتكون بمعمار هذه اللغة!. وإذا وجدت لهم العذر في الأخطاء النحوية، فليس هناك ما يبرر الأخطاء الجسيمة التي يرتكبونها في هجاء كلمات لغة، تُكتب كلماتها بنسبة 99% كما تُنطق؛ بينما تعلُّم أي لغة أوربية يستوجب حفظ هجاء معظم كلماتها ببغاويا، وحرفا حرفا، بالتكرار.
يبرر كثيرون ضعف إلمامهم بقواعد الإملاء والتعبير في اللغة العربية بصعوبتها، بينما الزعم بأن لغة ما صعبة لا يقوم عليه دليل، فهناك إجماع بين العوام في كل أنحاء العالم بأن اللغة الصينية هي الأكثر صعوبة على مستوى الكرة الأرضية؛ ولكن، لو كان الأمر كذلك لما تسنى لطفل صيني عمره سنتان أن ينطق بها، ولما تسنى لصبي صيني في الخامسة عشرة أن يعبر بها عن نفسه في اختبارات كافة المواد الأكاديمية.

رغم صعوبة الفرنسية فإنها اللغة الرسمية، بل والشعبية، في 29 دولة معظمها في أفريقيا؛ ومفردات اللغة اليابانية لا تُكتب كما تُلفظ، وفي النرويج لا توجد طريقة قياسية معيارية لنطق كلمات لغتها ذات الأصول الجرمانية.

والغريب في الأمر أن المتفقهين في اللغات عندما يصنفون ألسنة الشعوب من حيث صعوبة النطق بمفرداتها وتراكيب الجمل والكتابة، لا يضعون اللغة العربية بين “العشرين الأوائل” من حيث الصعوبة، بل تأتي الفرنسية على رأس القائمة التي وضعتها هيئة اليونسكو، لأن طريقة نطق كلماتها “مشكلة”، ولا توجد كلمة فرنسية تخلو من حروف عديمة الجدوى، تظهر في رسمها ولكنها لا تنطق؛ فهجاء الكلمات الفرنسية قائم على أساس تاريخي ولا علاقة له بالطريقة التي تُنطق بها. وفي المقابل لو علَّمت طفلا عربيا أو كمبوديا أو (بوركينا فاسوياً) حروف اللغة العربية، ثم طلبت منه أن يكتب “عنبر- قلم – سامي”، فإنه سيكتبها على النحو الصحيح، ما لم يكن دماغه مصفحا، فالصعوبة في اللغة العربية ليست في الكتابة، بل في القراءة في غياب الحركات، لعدم وجود حروف لينة قصيرة (short vowels) فيها، ويستعاض عنها بحركات الكسر والفتح والضم وبالسكون.
ورغم صعوبة الفرنسية فإنها اللغة الرسمية، بل والشعبية، في 29 دولة معظمها في أفريقيا؛ ومفردات اللغة اليابانية لا تُكتب كما تُلفظ، وفي النرويج لا توجد طريقة قياسية معيارية لنطق كلمات لغتها ذات الأصول الجرمانية. وبالمقابل فإن العربية الفصحى واحدة نطقا وكتابة، من طنجة إلى الدوحة، وهي كذلك لمن يتعلمها من الإندونيسيين والهولنديين والطاشناق، بينما هناك إنجليزية أمريكية وأخرى بريطانية، باختلاف واضح في رسم وهجاء الكلمات بينهما، ويقال إن الإنجليز استعمروا الهند طويلا، ثم أدركوا أن عليهم الاختيار بين الحفاظ على إمبراطوريتهم أو لغتهم، فقرروا إنقاذ اللغة وتركوا الهند، ولو حاول أوربي يزور الدانمارك تعلم لغة أهله، فإنه سيصاب بتلف الحبال الصوتية، لأن تلك اللغة تتألف من أصوات يصعب على معظم بني البشر الإتيان بها.
ولا أزعم أنني ضليع في اللغة العربية بأي قدر، ولكنني ظللت وسأظل أعشقها لأنها مستودع ثقافتي الروحية والفكرية، وهي تَرِكة ائتمنني عليها الأسلاف، ولا أريد تبديدها؛ فمن يهمل أمر لغته الأم، ويحسب أن الرطانة بلسان أوربي أو تطعيم كلامه بمفردات على شاكلة: أوكي، باي، كول، كمن ورث عن بعض أهله ثروة، وعوضا عن أن يحافظ عليها ويعمل على توظيفها جيدا بهدف “مراكمتها”، يبددها بدخول مجالات غريبة عليه، لا يعرف “قواعد الارتباط والاشتباك” فيها.
عيب أن نعيب لغتنا والعيب فينا، وهي تتألف من 28 حرفا، وإذا عددنا الهمزة حرفا صارت 29 حرفا، بينما عدد حروف اللغة الصينية مصدر خلاف، تماما كعدد الدول الأعضاء في الجامعة العربية، والراجح أن عددها أكثر من 700، ومع هذا يتكلم بها مليار و400 مليون شخص، وهم بهذه اللغة درسوا في كل المراحل التعليمية ووضعوا بلادهم في صدارة بلاد العالم اقتصاديا.

لا أزعم أنني فطحل في اللغة العربية، ولكنني حريص على الاستزادة منها لأني أحبها بوصفها عنصرا أساسيا في تشكيل هويتي، وأخاف عليها من التلوث والتحنط والتيبس، وأتمنى أن يتم تخفيف جرعات النحو في المراحل الأولى من مناهجنا المدرسية

قبل أكثر من 50 سنة توصل واضعو منهج اللغة الإنجليزية في بريطانيا إلى ضرورة إلغاء مادة القواعد (النحو) كمادة أو حصة مستقلة ومنفصلة، ليتم إعطاء الطالب جرعات خفيفة من قواعد اللغة، في سياق قراءة وفهم نصوص مكتوبة أو مسموعة؛ بمعنى أن يتم استنباط القاعدة والشواهد عليها من نص. ولو ظلت مناهج اللغة العربية عندنا جافة ومملة كحالها الراهن، فإن اللغة الفصحى ستصبح عما قريب “تخصصا” لنخبة النخبة، والنخب في جميع المجتمعات أقلية هزيلة العدد، ويزيد الأمر ضغثا على إبالة  أن التلفزيون، وهو أكثر أدوات الإعلام رواجا لأنه يشد الأميين كما يشد المتعلمين، وقع تحت سطوة مجاميع من الأميين لغويا ومعرفيا، فهدموا كل ما بناه الصحفيون العرب الرواد – في الصحافة المكتوبة والإذاعات خاصة – على مدى نصف قرن، عندما نجحوا في استنباط لغة فصيحة وبسيطة لا تنطُّع فيها ولا تقعُّر.
مرة أخرى، لا أزعم أنني فطحل في اللغة العربية، ولكنني حريص على الاستزادة منها لأني أحبها بوصفها عنصرا أساسيا في تشكيل هويتي، وأخاف عليها من التلوث والتحنط والتيبس، وأتمنى أن يتم تخفيف جرعات النحو في المراحل الأولى من مناهجنا المدرسية، بل لا أرى جدوى من تدريس بعض قواعد النحو مثل الإعلال والإبدال للطلاب في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، ولا أفهم كيف تؤدي دراسة الطباق والجناس والاستعارات إلى تحسين إلمام الدارس باللغة؛ حتى بعض النقاد القدامى لم يستحسنوا قول أبي تمام:
الســيـف أصـدق أنـبـاء مـن الـكـتـب .. فـي حـده الـحـد بيـن الـجد والـلـعـب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في .. مـتـونـهـن جـلاء الــشــك والــريـب
وفي هذين البيتين، في نظرجيل الشباب المعاصرين، تلاعب غير محمود بالألفاظ لا يعتد به في الشعر الحديث.
يقول مثل عربي جميل المعنى والمبنى “من نسي قديمه تاه”.. واللغة العربية إرث قديم ثمين، ومن أضاعه ضاع.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...