من النماذج العُلمائية الملهمة.. راوية الإسلام أبو هريرة الدوسي (رضي الله عنه)

بواسطة | أبريل 19, 2024

بواسطة | أبريل 19, 2024

من النماذج العُلمائية الملهمة.. راوية الإسلام أبو هريرة الدوسي (رضي الله عنه)

منارة من منارات الإسلام، صاحب العلم، مبلّغ الحديث، عريف أهل الصُفَّة، الوثيق في الحفظ، الملتزم بالهدي الشريف والدين الحنيف، القريب السبّاق، الزاهد في الدنيا، المجتهد في الدعوة والعبادة، والمجاهد في سبيل الله، الذاكر التوّاب الأواب، رأس من رؤوس العلم في القرآن والسنة، أحفظ من روى الحديث في دهره.. إنه الإمام الفقيه العالم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات (رضي الله عنه وأرضاه).

اسمه ونسبه وكنيته:

هو عبد الرحمن بن صخر، من ولد ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس اليماني، فهو دوسي أزدي، ولد في السنة الثالثة والعشرين قبل الهجرة، وكان اسم أبي هريرة في الجاهلية عبد شمس، وقيل غير ذلك، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (عبد الرحمن)، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال: لأني وجدت هرة، فحملتها في كمي، فقيل لي أبو هريرة.

إسلامه:

لما أسلم الطفيل بن عمرو، وأخذ يدعو قومه، أسلم معه أبو هريرة، أما أكثرية قومه فقد أبطؤوا عليه، فذهب إلى رسول الله ﷺ وسافر معه أبو هريرة، وكان رسول الله ﷺ لا يزال في مكة، لم يهاجر إلى المدينة بعد، وشكا الطفيل إلى رسول الله قومه، وما لقي منهم من صدود عن الدعوة، وقلوب غلف عن الحق، وطلب منه أن يدعو عليهم، فتوضأ رسول الله وصلى ركعتين، ويقول أبو هريرة إنه قد خاف أن يدعو رسول الله ﷺ على قبيلته دوس فتهلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوساً، وائت بها، وقال للطفيل اخرج إلى قومك وارفق بهم، فرجع الطفيل مع أبي هريره إلى دوس، وأخذ يدعو قومه، فانفتحت له قلوب كانت في أكنتها من قبل، واستمعت له آذان كان فيها وقرٌ سابقاً، فاستجاب له أعداد من قومه، يصل عددهم إلى سبعين أو ثمانين بيتاً.

خدمته للنبي وملازمته له وطلبه للعلم:

انقطع أبو هريرة منذ الأيام الأولى لإسلامه إلى رسول الله ﷺ فداوم على صحبته، ولازمه في ساعاته الأولى وأيامه، وحضره وسفره، يدور معه حيث دار، يخدمه ويقضي حوائجه، ويحضر مجالسه ويشهد مشاهده، ويكون معه في حجه واعتماره، وذهابه ومجيئه، فلم يعبأ برغد الحياة وراحة الجسم، وانكب على تحصيل العلم من منبع النور ومصدر الهداية، وأرهف سمعه وفتح عقله، وشغل قلبه بكل ما يصدر عن النبي ﷺ من أقوال وأفعال وأوامر وتوجيهات، وتصرفات في جميع الأحوال، فرصد دقيقها وجليلها، وعاين صغيرها وكبيرها، وأصغى ورأى، وحفظ ووعى، وجمع وروى، وكان أحرص على العلم من الأم على وليدها، فاختار كنوزاً ثمينة، وفاز بدرر نفيسة، عز تحصيل مثلها على من سبقه في الصحبة.

وكان من فضل الله عليه أن هيأ له عوامل ساعدته، ويسرت له الطريق، كحبه الغامر لصاحب الرسالة ﷺ ومتابعته، وتلقف ما يصدر منه، والعطف الحاني من جانب النبي ﷺ، والدعوة المباركة له بالحفظ الوثيق، والعلم الذي لا يُنسى، وكذلك تفرغه التام لطلب العلم والحرص عليه.. وقد استطاع (رضي الله عنه) من خلال صحبته لرسول الله ﷺ أن يحمل علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: “إني كنت امرأ مسكيناً، وكنت أكثر مجالسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا”، وعن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: “قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال ابسط رداءك، فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيت شيئاً بعده”.

وروى الربيع بن سليمان عن الشافعي قال: “أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره”، وقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي هريرة في السير: “وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة”، وقال أيضاً: “وأين مثل أبي هريرة في حفظه وسعة علمه”.

روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، قال الذهبي: “حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لم يلحق في كثرته”، وقال الإمام البخاري: “روى عنه نحو من ثماني مئة رجل أو أكثر من أهل العلم، من أصحاب النبي ﷺ والتابعين وغيرهم”، وقد روى وهب بن منبه، عن أخيه همام قال: سمعت أبا هريرة يقول: “ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب”، وروى الأوزاعي عن أبي كثير الغبري قال: سمعت أبا هريرة يقول: “إن أبا هريرة لا يكتم ولا يكتب”، ويقول ابن حزم: “مسند أبي هريرة خمسة آلاف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعون حديثاً”.

وهذا الحديث الكثير الطيب حفظه أبو هريرة عن النبي، ورعاه وأتقنه وضبطه وجوده، واعترف له علماء الصحابة وأكابرهم بأنه سمع مالم يسمعوا، وحفظ مالم يحفظوا، ولم يدخر وسعاً في إبلاغه للناس، تأديةً للأمانة، وقيامًا بواجب الدعوة.

الحافظ الكبير الشهير:

يتبوّأ أبو هريرة مكان الصدارة بين أصحاب النبي ﷺ في حفظ الحديث وكثرة روايته، ومع كونه مبرزاً في علوم الإسلام الرئيسة، ومن الرؤوس في القرآن والفقه، فإنه غلبت عليه شهرته الحديثية حتى غطت على علومه الأخرى؛ واشتهر بأنه محدّث الصحابة الأكبر، لكونه لازم النبي أتم الملازمة، وحمل عنه ما لا يُحصى كثرة، وروى عنه فأكثر جداً وأطاب؛ وتنوّعت طرق تحمله عنه، كما يتضح بجلاء لكل من يُمعن الفكر ويُديم النظر في كتب السنة الأصول، وتوجه إلى الصحابة الكبار والأئمة الأخيار، فسمع منهم وسألهم وروى عنهم، وأخذ عن المكثرين والمُقلّين، حتى ممن تأخر إسلامه جداً، لا يقف دون همّته عائق، ولا يصرفه عن شغفه بتحصيل الحديث النبوي صارف، فتحصّل عنده من هذين المصدرين المباركين علمٌ غزير وحديثٌ كثير، فكان أكثر الصحابة روايةً على الإطلاق، وأوعاهم لحديث النبي ﷺ وأحفظهم له بشهادة أكابرهم، وأصبح بحق راويةَ صدر الإسلام، ومقدّم محدّثي الصحابة الأعلام.

وبارَكَ الله له في علمه وحفظه، فاستجاب لدعوة النبي له بأن يرزقه علماً لا يُنسى، فكان حافظاً متناً ضابطاً وثيقَ الحفظ، ما أخطأ في حديث كما يقول الذهبي، وذلك من معجزات النبوة، وقد أقبل عليه علماء الأمة وجهابذة المحدّثين، وحمل عنه طائفة من الصحابة الأجلاء، وكان له أصحاب كثيرون، لازموا مجلسه وأطالوا صحبته، واستنزفوا حديثه، وروى عنه الجم الغفير من التابعين، فكان أكثر الصحابة تلامذة، وهذا ما هيّأَ لحديثه الانتشارَ في الآفاق والذيوع في الأمصار.

وهذا كله من أمارات الفضل وعلامات القَبول عند الله سبحانه لهذا الصاحب الجليل، وله بكل حديثٍ يرويه الرواة ويدوّنه المحدّثون الأجرُ الجزيل والثواب الموصول إلى يوم القيامة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...