من بلاط الشاه إلى سجون الثورة.. شهادة مثقف على تحولات إيران

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

من بلاط الشاه إلى سجون الثورة.. شهادة مثقف على تحولات إيران

مختصر المقال

تتناول هذه المقالة مذكرات المستشرق إحسان نراغي ولقاءاته مع الشاه محمد رضا بهلوي في فترة هامة من تاريخ إيران, وتفاصيل حياة إيران في فترة الاضطرابات والتحولات الهامة. كما سنركز على فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد. سنتناول تأثير مشروع الثورة البيضاء وتفاعل الشاه مع التحديات المتزايدة.

في مقالي السابق عن مذكرات المستشرق برنارد لويس، توقفت عند زيارة برنارد لويس إلى إيران ولقائه الشاه ونقاشه معه، وفي مذكرات برنارد قصة شيقة عن حفيدة الشاه، التي تدرس في جامعة برنارد لويس، وهذا جعلني أعود إلى مذكرات مهمة عن إيران، هي مذكرات إحسان نراغي.. فقد توقفت عند تعجُّب الشاه محمد رضا بهلوي من شجاعة المتظاهرين الإيرانيين، وقد سأل الشاه إحسانَ نراغي عن هذا، ثم قال بلهجة مستسلمة: ما الذي يمكن فعله لوقف المتظاهرين الذين لا يهابون الموت؟ لكأن الرصاص يجتذبهم، هكذا يصف إحسان نراغي اندفاع المتظاهرين في حواره مع شاه إيران.

إحسان نزاغي والثورة الاسلامية

إحسان نراغي هو عالم اجتماع ومؤرِّخ إيراني، كان يُدير مركزًا للدراسات الاجتماعية بطهران، خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، سجَّل مذكراته بعنوان: “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”، وهي شهادة قدَّمها نراغي عبر معايشته عن كثب سقوط إمبراطورية آل بهلوي وولادة الثورة الإسلامية في إيران.. فقد استدعاه القصر للمشاورة وتحليل أسباب الانتفاضة، التقى نراغي الشاه 8 مرات خلال أشهر حُكمِه الأربعة الأخيرة، وسمع الشاه من إحسان رأيه ونصائحه التي تفاعل إيجابيًّا مع كثير منها، وأسهمت تلك اللقاءات في انفتاح الشاه على شخصيات وتيارات معارضة أفضت إلى تشكيل حكومة “وحدة وطنية” في أواخر أيامه، لقاءات وصلت في مجموعها إلى خمسين ساعة قضاها مع الشاهنشاه “محمد رضا بهلوي”.

كل الغضب في إيران بدأ مع الاحتفالات التي جرت في “برسيبوليس” بذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على تأسيس إيران، اعتبرها إحسان نراغي بداية الاضطرابات، فقد اندفعت البلاد في موجة تبذير عارمة، واعتبر نراغي الاحتفالات تجسيدًا لجنون العظمة، ولنزوات رجل لم يكن يهتم حقًّا بتاريخ بلاده، بترف منقطع النظير في التاريخ المعاصر، وبأموال طائلة هدرت، وعقد اتفاقات مثيرة للدهشة مع الشركات الغربية، مع مبالغة في ترويج هذه الاحتفالات إعلاميًّا، ما سبَّب صدمة عميقة للشعب الإيراني، وأعطى الزعيم المعارض “آية الله الخميني” الفرصة لكى يتحدَّى من منفاه في العراق سُلطة الشاه؛ فمن مسكنه المتواضع في النجف اتهم الخمينيُّ الشاهَ بأنه “مجنون بالعظمة وطاغية غاشم”.

تبدأ القصة بعودة إحسان نراغي من باريس إلى بلاده المشحونة باضطرابات لم تهدأ منذ الانقلاب على حكومة مُصدِّق، وجاء مطلع عام 1978 لينقل تلك التحديات إلى مستوى آخر من الخطورة، إذ نشرت جريدة “إطلاعات” الطهرانية مقالًا تتهم فيه الخميني بـ”العمالة” للدول الغربية، فاكتسحت الشوارع والميادين مظاهرات ضخمة، وشيئًا فشيئًا باتت تلك الاحتجاجات تكتسب صفةَ ثورة. أمام هذا الوضع مَالَ الشاهُ إلى مقابلة أناسٍ كان من المستبعد أن يلتقيهم، مثل نراغي، وبعد موعدٍ جرى تأجيله لأشهر دخل إحسان نراغي ضيفًا إلى قصور الشاه الباذخة؛ يصف لنا إحسان الشاه بقوله: “رأيت أمامي رجلًا هزَّته الأحداث الأخيرة من أعماقه، أخذ يفقد الثقة التي كان يُبديها من قبلُ في اجتماعات العمل التي تسنَّى لي أحيانًا حضورها، قال لي بطريقةٍ مهذبة وكأنه يعتذر: مشاغلي الكثيرة لم تسمح لي بمقابلتك قبل الآن، ماذا تفعل؟ وكيف الوضع الآن؟”.

تنبع أهمية المذكرات من كونها سجَّلت لنا هذه اللقاءات بين الشاه وعالم في السياسة، ما يتيح فرصة ثمينة لكي نرى الشاه الجبّار وملك الملوك في إضاءة حميمية، تُظهر وجه الرجل الذي استغل سُلطته بحزم أعمى، الرجل المبهور بالعصرنة والمسحور بحليفه الأمريكي كُلِّي القدرة، نراه يسمع من نراغي عن الأخطاء التي جعلته يحكم باعتباره طاغية الشعب الإيراني، يوضحها نراغي له لكن بعد فوات الأوان، خصوصًا أن الشاه كان ينظر إلى نفسه على أنه باني إيران الحديثة، لكن نراغي يوضح أن الشاه قد تجاهل حركة التغريب العنيفة التي مارسها في بلاده، إضافة إلى علاقاته وتنازلاته الكبيرة للغرب.

الثورة وتصاعد التوترات

بدا الشاه مصدومًا من حجم الثورة وتصاعدها واستمرارها، وفي قصر الشاه المطلِّ على طهران قال الشاه: “من أين يأتي هذا العصيان؟ مَن المحرِّض؟ مَن يدير المعارضة؟ مَن أطلق هذه الحركة الدينية؟”.. أجبته: أنت نفسك يا جلالة الملك الذي أطلقتَها، منذ 15 سنة زُرتَ المقام الديني في “قم” وهاجمت علانية الزعماء الدينيين، ورفضت انتقاداتهم بخصوص الإصلاح الزراعي الذي أجريته وحقّ المرأة في الانتخاب، ووصفت موقفهم بـ”الرجْعي”، واستعملت ألفاظًا مُهينة.. منذ ذلك اليوم التاريخي أثَرْت جلالتك حركة إسلامية عارمة، وسيعود رجال الدين إلى المصادر الشيعية ليثبتوا أنهم ثوريون أكثر من ثورتك البيضاء.

منذ إطلاق الشاه مشروعَه لتوزيع الأراضي وتفتيت ملكيتها من يد كبار الملاك، بما يُعرف بـ”الثورة البيضاء للإصلاح الزراعي”، رأى الأخطار قادمة من الشيوعية، لم ينتبه إلى أن الخطر قادم من الداخل.. من شعبه؛ فقد برز عديد من القوى التي تنافسه على الشعبية في الشارع، مثل الملاك الإقطاعيين الذين سيفقدون ممتلكاتهم وتأثيرهم السياسي والاجتماعي، وكذا متوسطو الملاك الذين يخشون وصول القرارات إليهم، لكن رجال الدين الشيعة كانوا القوة الأبرز بدعوى تقديس الإسلام الملكية الفردية، وبدافع خوفهم من أن تمسَّ تلك الإجراءات وَقْفَ الحوزات الذي يدر المال الوفير على المؤسسات الدينية.. كل أولئك اصطدم معهم الشاه.

وينقل إحسان نراغي في شهادته على لقائه الأول بالشاه، أن الأخير لم يختلف عن نمطية تحليل المستبدين لأي احتجاج شعبي، إذ ردَّه إلى دسائس الخارج؛ يقول نراغي: “سألني الشاه: ماذا عن المحرضين الأجانب؟ ألا تعتقد أنهم مارسوا دورًا في ذلك؟ لقد وصلت إليَّ تقارير تفيد بأن منتقدي النظام يتلقون مساعدات مالية من الخارج؟ (كان الشاه يلمح للقذافي)، ردَّ نراغي: لسوء الحظ، هذه الحجج يرددها من يحيطون بك، الإسلاميون لا يحتاجون إلى المال من الخارج، أنت تعلم أن كل شيعي متدين عليه أن يهب خُمس عائداته، وهذه تذهب تبعًا لتوصية المرجع الذي يقلده، يجب أن أقول أيضا إن علاقة حكمك بإسرائيل، التي تزداد أواصرها قوة، دفعت الحركات الدينية إلى التقرب من المناضلين الفلسطينيين والدعوة إلى أممية إسلامية”.

كان الشاه مولعًا بصورته ومظهره الخارجي والسياق السياسي الدولي، لدرجة ظهر معها مفصولًا عن الواقع، فقد كان إحسان في حواره معه يلخص له دوافع الاحتجاجات في ثلاثة عوامل، تضافرت لتدعم موقف خصوم الشاه من وجهة نظر نراغي، أولها تفاوت الأوضاع المعيشية بين الطبقات، والثاني الامتيازات الاقتصادية للمقربين من الشاه، والعامل الثالث وحشية السافاك (المخابرات) والأمن القومي.

ويروي إحسان قصة أخرى يُظهر فيها كم كان الشاه بعيدًا عن واقع الشارع، فيحكي قصة السائق الذي يقلُّه إلى قصر الشاه، وهو موظف في وزارة التعليم العالي، قال لنراغي وهما في الطريق إلى قصر الشاه: “أتعتقد أن جلالته يعلم أني أتقاضى بعد عشرين سنة في الخدمة 1500 تومان؟”، وتوسَّل السائق إلى نراغي أن يرى الشاه بطاقة الراتب.. نهض نراغي من مقعده في لقاء الشاه وناول محمد رضا بهلوي بطاقة راتب هذا السائق البسيط، لكن لم يبْدُ على الشاه أنه كان راغبًا في إمساكها -البطاقة- بيده، لكن نراغي أرغمه عمليًّا على أخذها، ثم جلس يراقب بانتباه الطريقة التي كان يتفحصها بها، بدا له الشاه في هذه اللحظة مثيرًا للشفقة، وكان واضحًا أنه لم يرَ في حياته بطاقة راتب من قبل، بالإضافة إلى ذلك لم يكن قادرًا على تصوُّر ما يعنيه 1500 تومان؛ لذلك قال نراغي لينقذه من حَرَجه: “بهذا المبلغ يعجز المرء عن استئجار شقة من غرفتين في الحي الجنوبي الفقير من طهران”.

وخلال الأشهر التالية المتبقية للشاه في الحكم، وعبر لقاءاته المتكررة مع إحسان نراغي، أخذ نراغي دور الناصح والوسيط بين الشاه والقوى الثورية، وأسهم في دفع الشاه إلى الإفراج عن معتقلين، بينهم شخصيات سياسية بارزة، كما دفع القصر ليهدِّئ مستوى العنف، الذي كان السافاك (جهاز الشاه الأمني) يمارسه بحق المحتجين، لكن دور نراغي الأبرز ظهر في نقل الرسائل بين الشاه والقوى السياسية المعارضة، التي لا تود الوصول إلى نقطة اللا عودة، وحاول نراغي حمل الشاه على فعل إجراءات إصلاحية توقف تدهور الأوضاع في البلاد، لكن هذه الرسائل من المعارضة كانت تُغرق الشاه في حيرة تامة، يُفاضل فيها بين التنازل وتقليص نفوذه ونفوذ عائلته مع البقاء في الحكم، ولو بصلاحيات أقل، وبين المضي في قمع الشارع والمجازفة بكل النفوذ، واختار الشاه المضي في القمع وعدم التنازل إلى أن سقط حكمه.

يحكي إحسان في المذكرات أوجهًا من سُبُل النفوذ والفساد، التي تورطت بها العائلة الحاكمة في السيطرة على ممتلكات عامة، أو احتكار امتيازات معينة، ويحكي كيف واجه الشاهَ بضرورة إصلاح ذلك الفساد وتأميم ممتلكاتهم، وكان بين أبرز المتنفذين شقيقة الشاه، الأميرة أشرف، ويورد نراغي قصة توضح ذلك؛ ففي يوم كان نراغي يتناول الغداء مع رئيس الحكومة “هويدا” فرنَّ جرس الهاتف، وبعد حوار قصير جدًّا، أغلق الوزير الهاتف وبدا منزعجًا، فهم نراغي على الفور أن الأمر يتعلق بالمال، وتجاسر بالقول: “هل مُنيت الأميرة بخسارة كبيرة بالقمار في الكازينو؟”، انفجر رئيس الحكومة قائلًا: “السيدة تطلب مني مبلغًا ضخمًا، وقبل حلول المساء.. تصور أنها خسرت في كازينو كان، وهذا يجعل مزاجها سيئًا”، رفع هويدا عينيه نحو السماء وبدا عليه الاشمئزاز، فقال نراغي: “لماذا لا تستقيل؟”، وضع الوزير سبّابته أمام أنفه ليحذره من أجهزة تنصُّت، ثم ردَّ بقوة: “نحن لا نستقيل حين نكون في خدمة جلالته”.

وبينما كان الشاه يخسر معركة الشارع أمام زحف المحتجين، وتنامي حراكهم رغم سقوط القتلى بينهم، كان على موعد مع خسارة داخلية في تثبيت سرديته للأحداث وتوجيه الناس، إذ كان يعتمد في إعلامه الرسمي وشبه الرسمي على الخطابة بطريقة تقليدية، بينما كانت خُطب الخميني الحماسية تنتشر كالنار في الهشيم عبر شرائط الكاسيت؛ ثم تأتي خسارة أخرى في السياق الدولي، جعلت الشاه يفقد صفة الحليف للغرب.

في ذلك الشأن يحكي إحسان نراغي كيف رد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على انتقادات الشاه له للتدخل في الشأن الإيراني؛ يقول: “حكيت للشاه قصة الفيلسوف جان بول سارتر معي، إذ اقترب مني وقال: اسمع! لديَّ رسالة إلى شاهك، سمعت أنه يعجب من أن يهتم فيلسوف كبير مثل سارتر بقضايا التعذيب في السجون بإيران، أرجو أن تقول له إن الاهتمام بقضايا السجناء الذين يعذَّبون يجب أن يشكل الاهتمام الأوليّ للفيلسوف”. ردَّ الشاه بعد سماع القصة بغضب: “هل السيد سارتر يعلم أيضًا بمعسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي وفي البُلدان الشيوعية مثل كمبوديا؟”.. فأجابه إحسان: “مولاي! سارتر لم يتوانَ عن فضح القمع الذي تمارسه الأنظمة الشيوعية”، وبذلك كان الشاه على الصعيد السياسي يفقد رصيده السياسي سريعًا، خصوصًا مع مواقف الدول الغربية التي لا تُبدي دعمه، وكان متعجبًا من موقف الفرنسيين ورئيسهم، جيسكار ديستان، كيف يقبلون بعد ثورتهم العلمانية أن يقبلوا أن يقيم شعب ثورة على أساس ديني!

تنازلات الشاه والتقارب مع المعارضة

كان إحسان في جلساته ينتقد سقوط القتلى باستمرار نتيجة استخدام العسكريين الرصاص الحي، وكان الشاه يتذمر ويسخر من عدم تزويد حلفائه له بالرصاص المطاطي، إذ قال له الشاه إنه أعلم منذ أكثر من شهرين الجنرال تافانيان بجلب رصاص مطاطي، لكن الجنرال قال له إن الأمريكيين لا يملكونه وإن الإنجليز يتلكؤون في تزويد إيران به، وهنا قال الشاه: “أتساءل، هل يفضلون أن يسقط القتلى كل يوم في إيران، وأن تتمكن بي بي سي من إيجاد مواضيع خارقة؟”.

كانت التنازلات التي يقدمها الشاه ستحظى بموافقة الشارع، لو أنها جرت في وقت مبكر قبل تصاعد الاحتجاجات، لكن الشاه لم يكن ليبدي استعدادًا للتنازل، إلا بعد أن تكون الأحداث قد تجاوزته ومضت بعيدًا؛ عرض الشاه أن يتنازل عن أمواله وأن يطلق السجناء السياسيين، وأن يعين رئيس حكومة معارضًا لتشكيل حكومة ائتلافية، وحظيت فكرة التقارب مع المعارضة بدعم الشاهبانو فرح، التي كانت تكره عائلة زوجها ونفوذهم ولا تتورط مثلهم في الفساد، ودعمت زوجها في الاقتراب من المعارضين الوطنيين.

تُظهر لنا المذكرات صورة مميزة لفرح، زوجة الشاه، إذ تظهر فرح أنها عاقلة تهتم بأقوال المعارضة ولديها نية للإصلاح، لكن لم تكن تستطيع إقناع الشاه.. فقد نجحت بمهارة وذكاء في استقدام معارضي سياسة زوجها إلى القصر، حيث كان يُسمح لهم بالتجمع في صالة مجاورة للغرفة التي كان يحكم منها الشاه البلاد بمفرده، ويقول نراغي: “قبل سنة من احتفالات برسيبوليس الطنَّانة، التي أتاحت الفرصة في عام 1971 لهدر نفقات لا حدود لها، قالت لي فرح في أثناء حديث خاص إنها لا تفهم فائدة مثل هذه المشاريع المكلفة؟ وقد علمتُ لاحقًا أنها اعترضت بشدة على هذه الاحتفالات، إلى حدّ أن وزير البلاط علّام، وهو موضع ثقة الشاه، قدّم استقالته إلى الملك احتجاجًا على انتقادات الشاهبانو العنيفة، لكن الشاه لم يقبل هذه الاستقالة، وجرت الاحتفالات حسب البرنامج المقرّر”.

يحكي إحسان: “كنت في كل زيارة إلى الشاهبانو أمدُّها بمعلومات غير قابلة للنقض، وقادرة على إقناع الشاه بالخطر الذي يُحدق به إذا ما هو أفلت العنان لمثل هذه الممارسات (الفساد)، كانت الشاهبانو تقول لي في كل مرة: يؤكد جلالته أن كل هذه الشائعات أقاويل لا صحة لها.. أعطوني براهين!.. كانت بالطبع تدوّن بعض الملاحظات وتملأ بها أحيانًا صفحات من دفترها الكبير، دون أن نتوصل إلى إقناع الشاه بمنع تهافت أفراد عائلته على الربح بمثل هذه الشراسة”.

 كانت فرح تعلم عن فساد أسرة الشاه، وعندما وصلت إليها قائمة بأسماء المنتفعين من الدائرة الملكية اهتمت بالبحث عن أفراد من عائلتها، واطمأنت عندما رأت القائمة تخلو من أسماء تخصها متورطة في الفساد، كالعادة لم تكن مشكلة فرح السذاجة أو قلة المعلومات، أحيانًا كان الشاه يفوضها لمتابعة بعض القضايا، كانت تعلم أنها ينقصها القرار، كما حكت لإحسان، وفي إحدى مرات الصراحة النادرة بين إحسان نراغي والملكة فرح، قالت له: “لماذا يُفترض بنا، من أجل فريق صغير لا يتعدى أربعة عشر شخصًا أو خمسة عشر يريد إشباع نهمه المالي، أن نجازف بحياتنا وبحياة أولادنا؟ قل لي، لماذا؟”، تقصد هنا حاشية الشاه وعائلته، ردَّ نراغي: “هذا هو بالضبط السؤال الذي يجب أن تسأليه لجلالة الملك”.

ينقل إحسان نراغي المشهد الأخير الذي جمعه بالشاه في 14 يناير1979، إذ نهض نراغي لاستئذان الشاه بالانصراف، وخلافًا لعادته رافقه الشاه حتى باب مكتبه، وفي تلك اللحظة شدَّ الشاه على يده، ولمعت عيناه فجأة ببريق الانفعال الحاد، كأنه يريد أن يقول: لماذا لم تأتِ قبل الآن؟ لماذا لم تأت حين كنت في أمسّ الحاجة إلى من يجعلني مدركًا الحقائق؟ فما كان من نراغي إلا أن أجابه في نفسه مثل كثيرين: لأنك فضَّلت طويلًا يا صاحب الجلالة الاستماع لهؤلاء الذين كانوا يخفون عنك الحقائق.

وينقل نراغي بيت الشاعر حافظ الشيرازي: “مكتوب على زرقة السماء بأحرف من ذهب: على هذه البسيطة لا يبقى من الناس إلا مآثرها”، استشهد بهذا البيت إحسان نراغي وهو يودع الشاه في لحظة الخروج من الحكم في إيران.

وفي الأول من فبراير 1979، يعود الخميني إلى طهران، وتنجح الثورة الإسلامية، خصوصًا مع ضمان حيادية الجيش إثر رحيل الشاه، وخلال عشرة أيام أسقط الشعب الحكومة وجرى تعيين حكومة ثورية جديدة، ظهر الوفاق الثوري في القطيعة التامة مع نظام الشاه، فقد أعدم خلال الأشهر الأولى 550 من رجال النظام، وشهدت المحاكم افتقارًا إلى الإجراءات والكفاءات القضائية، وشابها كثير من التصفية السياسية، وفي إثر سقوط الشاه تعامل الحُكَّام الجُدُد والتيار الثوري بمزيج من الاحترام والتشكيك في موقف إحسان نراغي من نظام الشاه، تعرّض نراغي للاعتقال ثلاث مرات، لمدد كان مجموعها نحو سنتين ونصف السنة.

بعد 27 شهرًا من الاعتقال، بدأت مظاهر الإفراج تتجلَّى أمام إحسان نراغي، وللمفارقة فإن أسباب اعتقال نراغي من الحرس الثوري كانت تنطوي على أدلة براءته، إذ اختصر حراس الثورة الأسباب في الولاء لنظام الشاه البائد والارتباط الخارجي، خصوصًا بالولايات المتحدة، واعتباره مستشارًا للرئيس حسن بني الصدر الفار إلى فرنسا، لكن أثبتت الأدلة إثر اقتحام السفارة الأمريكية العثور على ثلاثين تقريرًا لشخصيات بارزة، بينهم نراغي، الذي أُرفق في تقييمه بعدم ولائه لأمريكا، كما أن نراغي لم يلتقِ حسن بني الصدر طوال فترة حكمه الممتدة 16 شهرًا، وإن تقارير السافاك كانت قد تضمَّنت تسجيلات مكالمات له ينتقد فيها الشاه ويتهكم في بعضها عليه.

هكذا تُقدّم المذكرات وثيقة لرحلة عالم الاجتماع والمؤرخ الإيراني من بلاط الشاه إلى سجون الثورة الإسلامية، إذ كان قدره أن يعارض الشاه من داخل البلاط الحاكم، ثم -ومع سقوط الشاه- عانى في سجون مَن كان يرى ضرورة الانفتاح تجاههم وإتاحة الفرصة لهم، وأهدى نراغي أمَّه وزوجته وكل زوجات المعتقلين وأمهاتهم أينما كنَّ مذكراته تلك.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...