من سيخلف محمود عباس؟

بواسطة | أغسطس 15, 2023

بواسطة | أغسطس 15, 2023

من سيخلف محمود عباس؟

تستأثر قضية خلافة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، باهتمام واسع في الآونة الأخيرة على أكثر من صعيد، فلسطيني وإسرائيلي وعربي ودولي، على خلفية تقدمه في العمر وتراجع وضعه الصحي.
ويلاحظ أنه يتم تداول بعض الأسماء لخلافة عباس، جميعها من الدائرة المحيطة به، حيث تشمل بورصة الأسماء المتداولة مسؤولين مكلفين بملف التعاون الأمني مع الاحتلال، وبعض أعضاء اللجنة المركزية لحركة (فتح)؛ ويعكس تقاذف أسماء هؤلاء الأشخاص، كمرشحين محتملين لخلافة عباس، إما جهلا بالواقع الفلسطيني وتعقيداته، أو رغبة لدى بعض الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية بأن يكون (الخليفة) من داخل الدائرة الضيقة لرئيس السلطة.
لكن من يطرح أشخاصا من دائرة عباس الضيقة كمرشحين لخلافته، يتجاهل حقيقة أن جميع هؤلاء يستمدون شرعية دورهم السياسي من عباس ذاته، وهو الذي بات لا يحظى بمستوى شرعية جماهيرية، بسبب الثمار السيئة للبرنامج السياسي الذي يتشبث به، فضلا عن مظاهر الفساد التي تنخر في مؤسسات السلطة التي يقودها؛ فحسب استطلاعات الرأي التي أجراها “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، وهو مؤسسة بحثية مستقلة، أكد أكثر من 77% من الفلسطينيين عدم رضاهم عن عباس وطالبوا باستقالته، إذ يتضح بشكل لا يقبل التأويل أن عباس ومقربيه يتبنون موقفا من المقاومة المسلحة يتناقض بشكل فج مع توجهات الجماهير الفلسطينية، ففي حين يجاهر عباس بموقفه الرافض للعمل المقاوم المسلح الذي يصفه بـ “العبثي”، فإن 71% من الفلسطينيين يؤيدون تشكيل مجموعات مسلحة مقاومة لا تخضع لأوامر السلطة؛ وإن كان عباس يجاهر بحماسه بالتعاون الأمني مع الاحتلال ويعده (مقدسا)، فإن 63% من الفلسطينيين يطالبون بوقفه، فضلا عن أن 79% يجزمون بأن السلطة لا تقول الحقيقة عندما تدعي أنها أوقفت أو جمدت هذا التعاون. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الذين تطرح أسماؤهم كمرشحين لخلافة عباس هم الذين يتولون إدارة التعاون الأمني مع الاحتلال ويشرفون عليه، فإن هذا يدل على أن مثل هؤلاء لا يمكن أن يحظوا بشرعية جماهيرية تؤهلهم لولاية عباس بعد ترجله.
طبعا، هناك من سيحاجج بأن عباس الذي كان دائما ضد العمل المسلح قد انتخب في 2005 رئيسا للسلطة رغم موقفه هذا؛ لكن هؤلاء يتجاهلون طابع الواقع الذي جرت فيه انتخابات 2005، حيث كان الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يعانون من حالة استنزاف على كل الصعد بعد خمس سنوات من انتفاضة الأقصى، التي قتلت إسرائيل خلالها وجرحت عشرات الألاف من الفلسطينيين، مع كل ما رافق ذلك من تدهور خطير على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية؛ ومما يدل على أن عباس استفاد في عام 2005 من ظرف استثنائي عاشه الفلسطينيون، أن الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2006 أسفرت عن فوز ساحق لحركة “حماس” ومنيت حركة “فتح” التي يقودها عباس بهزيمة كبيرة؛ فضلا عن ذلك فإن الشعب الفلسطيني، بخلاف الأوضاع في 2005، يعيش الآن حالة تأجج ثوري غير مسبوقة، يعكسها ظهور تشكيلات المقاومة المسلحة التي تعمل كمجموعات محلية أو تنظيمية، فضلا عن بروز العمليات الفردية. وإن كان بعض الفلسطينيين قد ساورهم الأمل في 2005 بأنه يمكن أن تتجسد بعض رهاناتهم على اتفاقات “أوسلو” التي كان عباس ودائرته الضيقة الأكثر ارتباطا بها، فإنه لا يوجد حاليا فلسطيني يؤمن بإمكانية أن يتحقق الحد الأدنى من هذه الرهانات، المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية في حدود العام 1967، بعد صعود اليمين الديني اليهودي الخلاصي المتطرف إلى حكم إسرائيل في أعقاب الانتخابات الأخيرة. وفي نظر الفلسطينيين، فإن الأشخاص الذي يمثلون الدائرة الضيقة لعباس يتحملون أيضا المسؤولية عما آلت إليه الأمور على الساحة الفلسطينية، لأنهم يمثلون الأدوات التي يعتمد عليها في إمضاء سياساته التي لا تحظى بأي قدر من الشرعية، عبر استخدام قبضة الأجهزة الأمنية.
وهناك من يرى أنه نظرا لأن إسرائيل والقوى الإقليمية والدولية، وتحديدا الولايات المتحدة، معنية بأن يتولى مقاليد السلطة بعد عباس شخص يتبنى نهجه ذاته، فإن هذه الأطراف ستعمل على منح هذا الشخص إنجازات تحسن من شعبيته وتجعله مقبولا على الصعيد الداخلي. لكن، على الرغم من أن إسرائيل والأطراف الدولية والإقليمية معنية بالفعل بأن يخلف عباس شخصية تتبنى نهجه، فإن قدرة هذه الأطراف على منحه إنجازات تحسن من شعبيته محدودة للغاية؛ فقوى اليمين الديني المهيمنة على حكومة الاحتلال لن تسمح بأي شيء من “بوادر حسن النية” التي يمكن أن يعتمد عليها “الخليفة” المحتمل في بناء شعبية جماهيرية له؛ فقد رفض وزراء حركتي “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” الأسبوع الماضي منح السلطة تسهيلات اقتصادية شكلية لضمان الحفاظ على استقرار السلطة، رغم أن المؤسستين العسكرية والاستخبارية في تل أبيب أكدتا أن استقرار السلطة وضمان بقائها يمثل مصلحة إستراتيجية لإسرائيل؛ ولن يوافق قادة اليمين الديني اليهودي الخلاصي، المعنيين بتوظيف وجودهم في حكومة نتنياهو من أجل حسم الصراع مع الفلسطيني بشكل نهائي، على منح السلطة تسهيلات أو “تنازلات” لمجرد الإسهام في تعزيز شعبية أحد من دائرة عباس الضيقة.
في الوقت ذاته، فإن تزامن تأجج الحالة الثورية في الأراضي الفلسطينية مع تعاظم عدوان المستوطنين اليهود على الفلسطينيين، بدعم حكومة نتنياهو وجيش الاحتلال، يزيد من الفجوة بين الشعب الفلسطيني والمنتمين إلى الدائرة الضيقة لعباس، على اعتبار أن هؤلاء لا يمكن أن يتبنوا خيار المقاومة، لأن هذا الخيار ببساطة يتناقض مع مصالح هذه الفئة؛ فمن ارتبط بالتعاون الأمني مع الاحتلال لا يمكن أن يطرح بدائل سياسية قادرة على استيعاب الحالة الثورية، أو تمثل سبيلا لمواجهة العدوان المتعاظم على الشعب الفلسطيني.
لكن ما تقدم لا يعفي فصائل المقاومة والقوى الشعبية والنخب الفلسطينية من الاستعداد لمرحلة ما بعد عباس، عبر التوافق على برنامج وطني شامل لتحقيق الحرية والتحرير، ومن ثم اختيار قيادة مؤهلة وقادرة على تمثيل هذا البرنامج وتبنيه.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...