مواقيت للناس
بقلم: حسن عبد الرزاق السيد
| 30 مارس, 2024
مقالات مشابهة
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
-
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح...
-
في موقعة أمستردام.. لم تسلم الجرّة هذه المرة !
تقول العرب في أمثالها: "ما كل مرة تسلم الجرة".....
-
عمر بن عبد العزيز والتجربة الفريدة
حين ظهرت له أطلال المدينة المنورة، أيقن الشاب...
-
هيكل: حكايات من سيرة الأستاذ الكاهن (2)
هيكل والسادات مضت السنوات وابتعد محمد حسنين هيكل...
-
أعرني قلبك يا فتى!
أعرني قلبك يا فتى، فإن الأحداث جسام، والأمور على...
مقالات منوعة
بقلم: حسن عبد الرزاق السيد
| 30 مارس, 2024
مواقيت للناس
عند مقدم وانقضاء رمضان من كل عام نلحظ انقسامًا كبيرًا بين الناس في تحديد دخول الشهر من عدمه، بين مدعٍ عدم إمكانية تحري الهلال وآخر مثبت، وبين معتدٍ وداعٍ للاعتداد بالحساب وآخر رافضٍ لذلك المبدأ.. وبِغضّ النظر عن هذه الجدليات في هذا الشأن، لعلنا نقف وقفات تتعلق بالأهلة.
فقد ورد ذكر الأهلة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَسۡـَٔلونكَ عن ٱلۡأهلَّةۖ قُل هي موٰقيت للنَّاس وٱلحجِّۗ﴾ [البقرة: 189]، والمتأمل في الآية يجدها تبين غرض الأهلة وغايتها، فإنما هي لتبيان المواقيت، وقد ورد فيها ذكر الحج، وجاءت الآية بعد آيات الصيام وقبل آيات الجهاد، وذكر أحكامها التي منها القتال في الأشهر الحرم، وفي كل ذلك دلالة على تعلق تنظيم الحياة بتلك الأهلة.
وقد ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عدَّة ٱلشُّهور عند ٱللَّه ٱثۡنا عشر شهۡرٗا في كِتَٰب ٱللَّه يومَ خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰت وٱلۡأَرۡض منۡها أرۡبعةٌ حُرُمٞۚ ذَلك ٱلدِّين ٱلقيِّمۚ فلا تظۡلموا فيهنَّ أنفسَكمۡۚ﴾ [التوبة: 36]، وهذه الآية أيضًا وردت في معرض ذكر القتال والأشهر الحرم، بل جاءت الآية التالية لها مشنِّعة على ما كان يفعل العرب في الجاهلية بما يُعرب بــ”النسيء”، وهو إنساء – أي تأجيل- شهر المحرم ليحل محل شهر صفر، وذلك ليتمكنوا من القتال في ذلك الشهر لعدم مقدرتهم على البقاء دون قتال لمدة ثلاثة أشهر متتالية، فقال تشنيعًا عليهم: ﴿إِنَّما ٱلنَّسيٓء زيادةٞ في ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ به ٱلَّذين كفروا يُحِلُّونهُۥ عامٗا ويُحرِّمونهُۥ عامٗا لِّيُواطِـُٔوا عدَّة ما حرَّم ٱللَّه فيُحِلُّوا ما حرَّم ٱللَّهُۚ زُيِّن لهمۡ سوٓء أعۡمَٰلهمۡۗ وٱللَّه لا يهۡدي ٱلۡقوۡم ٱلۡكَٰفرين﴾ [التوبة: 37]، وغير خافٍ ما في فعلهم ذاك من التلاعب.
ولما كان الخلق والأمر لله تعالى فقد جعل عدد الشهور اثنا عشر، واختص منها أربعة أشهر لتكون حُرمًا وعظم منزلتها وحرم بدء القتال فيها. وقد جعل تعالى علامة دخول الشهور تحري الهلال فإذا تمكن الناس من رؤيته ثبت دخول الشهر، فقد جاءنا الأمر على لسان النبي ﷺ: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين” [صحيح مسلم 1081]، وفي رواية للبخاري: “… فأكملوا عدة شعبان ثلاثين” [صحيح البخاري 1909].
ومن الوقفات في مسألة تحري الهلال واعتباره دليل بداية الشهر جملة من الفوائد، منها:
أولًا: تسليم لأمر الله تعالى، واتباع لسنة نبيه ﷺ، فالأمر بالتحري تعبدي، حيث إن عبادات المسلم مؤقتة بمواقيت وبعضها متعلقة بالشهور كصيام رمضان، وحولان الحول للزكاة، وأشهر الحج، وأحكام الأضحية والهدي، وتحديد الأشهر الحُرم المتعلقة بها أحكام الجهاد، وحساب عدة المتوفى عنها زوجها، والمطلقة الصغيرة والآيسة (غير ذات الأقراء)، وبعض الكفارات كصيام الشهرين المتتابعين.
ثانيًا: تعظيم لشعائر الله تعالى، كتحديد يوم عيد الفطر وما يتعلق به من اختصاصات وشعائر، كالتكبير وتحريم الصوم فيه، وموعد الأضحية في عيد الأضحى وأيام التشريق، ونحو ذلك من الشعائر.
ثالثًا: أن فيه ارتباط بالأسباب الطبيعية التي سخرها الله للإنسان وبمسببها تعالى، حيث يكون الإنسان في حاجة لرصد الأجرام السماوية التي جعلها الله علامات لمواقيت العبادات وأزمنة ومواسم الزراعة والسفر في البر والبحر ونحو ذلك.
رابعًا: يكون فيه اطمئنان قلب المؤمن لاختيار الله له ببداية الشهر ونهايته، والتسليم لذلك الاختيار، وقطع العلائق بالناس، والالتجاء إلى رب الناس والرضا باختياره وقدره. وهذا التعلق بالله تعالى وأقداره مما يدخل في الإيمان بالغيب، وهو أساس الإيمان، فلو تأملنا في أركان الإيمان لعلمنا أن جميعها من قبيل الإيمان بالغيب، فالإيمان بالله تعالى إيمان بغيب مع ما أظهره تعالى من علامات عليه في الآيات، قال تعالى: ﴿سَنُريهمۡ ءَايَٰتنا في ٱلۡأٓفاق وفيٓ أَنفُسهمۡ حتَّىٰ يتبيَّن لهمۡ أَنَّه ٱلۡحقُّۗ أَوَلَمۡ يكۡفِ بربِّكَ أنَّهُۥ علىٰ كلِّ شيۡءٖ شهيدٌ﴾ [فصلت: 53] .والإيمان بالملائكة غيب، فصورتها وأفعالها مغيبة عن الانسان، قال تعالى: ﴿قُل لَّوۡ كان في ٱلۡأَرۡض مَلَٰٓئِكةٞ يمۡشون مطۡمئِنِّين لَنَزَّلۡنا عليۡهم مِّن ٱلسَّمآء ملَكٗا رَّسولٗا﴾ [الإسراء: 95].
والإيمان بالرسل من الغيب، فهو غيب على من لم يحضر أولئك الرسل وشهادة لمن حضرهم، ولكن حتى من حضرهم يكون إيمانه بما جاؤوا به من قبيل الإيمان بالغيب، فكما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله لما شكَّكه مشكِّك من قريش بشأن إسراء النبي إلى بيت المقدس: “قال: لئن قال ذلك فقد صدق، قالوا وتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة” [مستدرك الحاكم، 4513، صحيح على شرط الشيخين].
والإيمان بالكتب من قبيل الغيب، فهي وإن وجدت بين أيدي الناس في المصاحف والرقاع يتعبدون بها، فإن الإيمان بأنها منزلة من عند الله والإيمان بما تضمنته والتصديق بما حوته من قبيل الغيب، ولا يكون حال المؤمن كحال بني إسرائيل في تعاملهم مع الكتب، حيث قال تعالى عنهم: ﴿ولمَّا جآءهمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عند ٱللَّه مُصَدِّقٞ لِّمَا معهمۡ وكانوا من قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحون على ٱلَّذين كفروا فلمَّا جآءهم مَّا عرفوا كفروا بهۦۚ فَلَعۡنَة ٱللَّه على ٱلۡكَٰفرين﴾ [البقرة: 89].
والإيمان باليوم الآخر من أبرز صور الإيمان بالغيب، فما عمل العامل خوفًا أو رجاءً إلا لإيمانه باليوم الأخر وما فيه من عرض ونشور وميزان وصراط، ولذلك نجد المؤمن بديانة سماوية – على ما في غير الإسلام من تحريف وتبديل- يدور في أعماله على ما شُرع له من أحكام، لإيمانه بأنه محاسب على عمله في الدنيا، وإنما إنكار المنكرين لليوم الآخر كالملاحدة والدهريين لكونهم لا يؤمنون إلا بما يرون، وقد حكى الله عنهم قولهم: ﴿وقالوا ما هي إلَّا حياتنا ٱلدُّنۡيا نموت ونحۡيا وما يُهۡلِكُنآ إلَّا ٱلدَّهۡرۚ وما لهم بذَٰلك منۡ علۡمٍۖ إِنۡ هم إلَّا يظُنُّون﴾ [الجاثية: 24]، وقولهم: ﴿قال من يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰم وهي رميم﴾ [يس: 78].
وكذا الإيمان بالقدر خيره وشره من قبيل الإيمان بالغيب، فقد قال النبي ﷺ لابن عباس: “واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف” [الترمذي 2516، صحيح]، وورد عن عبادة بن الصامت في نصيحته لابنه: “إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك”.
خامسًا: إحسان الظن في المسلمين، حيث إن تحديد بداية الشهر تعتمد على شهادة الشهود بثبوت الرؤية، حيث يثبت دخول رمضان بشهادة شاهد وينقضي برؤية وشهادة شاهدين أو تمام العدة 30 يومًا، على أن تتوفر في الشهود الشروط المعتبرة والمذكورة في كتب الفقهاء ومنها العدالة ونحوها.
سادسًا: توحيد المسلمين، فرغم ما يراه البعض بأن الأمر يؤدي إلى تفريق المسلمين، فإنه في الحقيقة توحيد على المبدأ، ولو افترضنا عدم وجوده لكثرت الأقوال والاجتهادات، كما أن اعتماد الحساب دون الرؤية لا يلزم معه توحيد دخول وانقضاء الشهر، حيث إن سبب دخول الشهر معتمد على ولادة واقتران الهلال وبقائه شيئًا من الليل بعد غروب الشمس، وهذا الأمر مختلف ضرورة لاختلاف المطالع، فغرض الداعين لاعتماد الحساب دون الرؤية غير متحقق.
وعلى ما تقدم يمكن إجمال القول بأن الاستهداء بالأهلة لتحديد الشهور هو أمر تعبدي أٌمرنا باتباعه، ولو جهلنا سببه وعلته، وعلى المسلم التسليم لأمر الله تعالى والاقتداء بسنة نبيه، وعدم شق المجتمع بالتشكيك والتنظير في حال ثبوت الرؤية أو عدمها، ولعلنا نفهم هذا الأمر من خلال النهي عن صوم يوم الشك وهو المتمم لشهر شعبان، وذلك عند عدم التمكن من الرؤية بأن غُم، وإن ثبت بالحساب وجوده، فإنا متعبدون باتباع النبي ﷺ.
والواجب على الأمة الاعتزاز بهذا الاختصاص الذي خصت به، فإن أشهرنا ومواقيتنا هي مما يميزنا كأمة، وترتبط عباداتنا بها، وهي مظهر من المظاهر الإسلامية التي يجب التمسك بها وتعزيزها لدى أجيال المسلمين، وذلك بتعليمهم أسماء الشهور ومعرفة الحرم منها والتأريخ بها، وربطها بنوافل العبادات كصيام الاثنين والخميس والأيام البيض ونحو ذلك.
وإن لم نتدارك الأمر ونعزز هذه الثقافة، فإن مصير التأريخ بالشهور الهجرية سيؤول إلى ما آل إليه التوقيت الغروبي، والذي يُعد توقيت المسلمين الذي يؤقتون به أوقات عباداتهم اليومية، فيكون بدء اليوم (الساعة 00:00) هو وقت غروب الشمس ليحل وقت صلاة المغرب، ويدخل بذلك وقت الأعمال المتعلقة باليوم كالأعمال المرغب فيها ليلة ويوم الجمعة، وهي: الإكثار من الصلاة على النبي، وقراءة سورة الكهف، ودخول وقت الغسل المسنون للجمعة.. كذلك البدء بالاجتماع لصلاة التراويح ليلة رمضان، ودخول وقت التكبير ليلة عيد الفطر ونحوها.
وإن الدعوات لاعتماد الحساب دون الرؤية وتشكيك الناس بالرؤية والترائي ستؤول حتمًا بالأمر التعبدي بالرؤية إلى ما آل إليه التوقيت، غير أن الأول تعبدي دلت عليه النصوص، بينما تحديد الأوقات على الساعة عرفي تعارفت عليه الناس باستصحاب الأوقات الشرعية، فيشكل فقد الأول تغييرًا أو تبديلًا للأحكام الشرعية فلا يُقبل، وفي فقد الثاني تغيير الاجتهاد قد يقبل.
كاتب قطري
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟
خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...
0 تعليق