ميراث مصون ضيعه الوارثون

بواسطة | أبريل 20, 2024

بواسطة | أبريل 20, 2024

ميراث مصون ضيعه الوارثون

كثيرون ممن قضوا حيواتهم دائبين في تحصيل الرزق وجمع المال، ما لبثوا أن رحلوا، وصار المال إلى الورثة، فإن كانوا محسنين أحسنوا صيانة الميراث، وإلا فإضاعة الميراث وتبديده متحتمة.. ولو قُدّر لذلك المورث العودة للحياة فلربما أعاد النظر في اجتهاده وتحصيله وسعيه، ولربما استحضر البيت المنسوب لعلي بن أبي طالب :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها       ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وهذه الحال في توريث الأموال المادية، التي هي زائلة بطبيعتها، تهلكها حوادث الزمان، وتحصيل حاجات الانسان.

وتكون المصيبة أنكى والبلية أعظم إذا كان الموروث المضيع هو التراث غير المادي، والذاكرة الجمعية لأمة من الأمم وملة من الملل؛ فالأمم تعتز بتراثها وتاريخها، وتحافظ عليه وتعززه في أجيالها، ليصلهم ذلك التراث كاملًا غير منقوص، كي يحافظ عليه الأبناء كما حافظ عليه الآباء.

وأعز ميراث للأمة الإسلامية بعد الإسلام هو اللغة العربية، فهي تراثنا الثقافي، والجامع بيننا؛ فيتمكن المتحدث بالعربية من الانتقال من وسط الجزيرة العربية إلى صحاري وجبال المغرب العربي دون الحاجة لترجمان، حيث اللسان واحد، ولا يختلف إلا اختلافات جزئية في مختلف اللهجات، واختلاف اللهجات قديم متأصل في الثقافة العربية، ودل على ذلك ما ورد في الحديث الذي رواه كعب بن عاصم الأشعري: “ليس من امبر امصيام في امسفر” [أخرجه النسائي وابن ماجة، وأحمد واللفظ له].. قال الحافظ ابن حجر: “هذه لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميمًا، ويحتمل أن النبي خاطبه بها لهذا الأشعري لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها، فحملها عنه الراوي وأداها بلفظها الذي سمعها به” [التخليص الحبير]؛ فيعلم بذلك أن اختلاف اللهجات لا يعني ضرورة اختلاف اللغة، بل إن اللهجات منتمية إلى اللغة العربية.

وإن ذلك الميراث المذكور، المتمثل في اللغة العربية، ليُعدّ عند مقارنة غيرها بها الأعلى والأكمل والأجمل على مستوى اللغات؛ بلاغيًّا، وبيانيًّا، واشتقاقيًّا، ونحويًّا، وإملائيًّا.

فمن الجانب البلاغي، تُعد العربية لغة عالية البلاغة، يميزها بيان الألفاظ، وبديع المكونات، وعلو التراكيب والأساليب.

ومن الجانب البياني، فالعربية تبُز سواها في البيان ولطافة الكلمات، ووضوح المعاني والدلالات؛ وقد امتن الله عز وجل على الناس بإنزال القرآن الكريم عليهم، وتبيان ما حوى من البيان، فقال تعالى: ﴿نزل ‌به ‌الرُّوح الأمين* على قلبك لتكون من المُنذِرين* بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ﴾ [الشعراء: 193-195]، وفسر ابن كثير “المبين” بــ: “ليكون بيِّنا واضحا ظاهرا، قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة”.

ومن الجانب الاشتقاقي، فإنها تتميز بوضوح قواعد الاشتقاق والتصريف، وفقًا لأوزان معروفة قياسية ومعيارية، فيمكن اشتقاق الألفاظ والكلمات الكثيرة من خلال معرفة جذر الكلمة؛ ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ قال على لسان العربية:

أنا البحر في أحشائي الـدر كــامن          فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

وسعت كتـــاب الله لفظًـــا وغــايةً          ولم أضــق عن آي به وعظـــات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ          وتنـسـيــق أسمــاءٍ لمخــترعــات

ومن الجانب النحوي، فلها الكعب العالي والقدر المنيف، فهي لغة كريمة واضحة تجري على قواعد معينة معروفة لا تشذ، فتفرق بين الذكر والأنثى، وبين المفرد والمثنى والجمع، وليست بحاجة لكثير من الزيادات والإضافات لتبين المعاني.

ومن الجانب الإملائي وتراكيب الألفاظ، فاللغة العربية قياسية لا يشذ فيها المكتوب عن المسموع والمنطوق، بخلاف غيرها من اللغات التي لا تحكمها قواعد الإملاء، ويحتاج متعلمها ليحفظ أشكال الكلمات، ليتمكن من كتابتها.

ومن الجانب الصوتي، فالعربية تعتمد نظامًا صوتيًا مميزًا، يُتاح معه لفظ الأصوات بسهولة، ويحتوي النظام الصوتي على أصواتٍ أكثر من اللغات الأخرى، ما يمكن متقن العربية من لفظ أي صوت دون عناء.

فعجبًا كل العجب ممن يستبدل لغات ضعيفة لا مقومات لها باللغة العربية العظيمة ذات المقومات العديدة، ليكون كبني إسرائيل إذ قال لهم موسى – عليه السلام-: ﴿‌أَتستبدلون الَّذي هو أَدنى بالَّذي هو خيرٌۚ﴾ [البقرة: 61] .

ومن الفوائد المرتجاة من تعلم العربية :

1- فهم خطاب الشارع الحكيم، حيث إن العربية هي لغة ووعاء ذلك الخطاب، قال تعالى: ﴿إنَّا أَنزلناه قرآنًا ‌عربيًّا لعلَّكم تعقلون﴾ [يوسف: 2]، وقال: ﴿بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ﴾ [الشعراء: 195]، وقال: ﴿وكذلك أنزلناه حُكْمًا ‌عربيًّا﴾ [الرعد: 37]، وقال: ﴿قرآنًا ‌عربيًّا غير ذي عِوَجٍ لعلَّهم يتَّقُون﴾ [الزمر: 28]، وقال: ﴿كتاب فُصِّلَتْ آياته قرآنًا ‌عربيًّا لقومٍ يعلمون﴾ [فصلت: 3]، وقال: ﴿إِنَّا جعلناه قرآنًا ‌عربيًّا لعلَّكم تعقلون﴾ [الزخرف: 3]، فلا يمكن أن يُفهم هذا الخطاب دون فهم العربية، ودون فهم سَنن العرب في استخدامها، ويلاحظ في الآيات الموردة ارتباط ذكر اللسان العربي بالتعقل والتعلم.

2- إعمال الفكر وتطوير الاستنباط لكون العربية لغة منطقية ومعيارية، ويعمل فيها القياس والنظر، من خلال إعمال القواعد النحوية والصرفية والإملائية، وقد روي عن الشافعي – رحمه الله-: “أصحاب العربية جِنّ الناس، يبصرون ما لا يبصر غيرهم”.

3- ترتفع بالأخلاق، حيث تمكّن الإنسان من انتقاء الألفاظ المناسبة دون إسفاف وتبذُّل، فما ورد في شأن استخدام السباب والتبذل في كلام العرب قليل مقارنة مع غيرهم، وذلك رغم أن كتب الأدب والسير مشحونة بذكر النقول الطويلة في الخلافات والمشاجرات، ولعل سبب ذلك أن العرب حتى في خلافاتهم يتحرون كلامهم، وينطقون بلغة فيها أدب، لما في اللغة من سعة ودقة الألفاظ، فقد يرفع الرجل من شأن قوم أو يحطهم ببيت من الشعر مدحًا أو ذمًّا دون التجريج المبتذل، كما رُفع شأن قوم كانوا يعرفون بــ “بني أنف الناقة” بقول الشاعر:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم       ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

فرفع قدرهم دون سب أو ابتذال غيرهم.. وعكسه ما جاء في بيت جرير موجهًا خطابه للراعي النميري، بقوله:

فغضَّ الطرف إنك من نميرٍ        فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

فحط من مكانة القوم دون السب الصريح والابتذال.

ولعلنا نفهم من مجموع ما سبق مقصود عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- بقوله: “تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتورث المروءة”، وقول شيخ الإسلام ابن تيمة – رحمه الله-: “اعلم أن اعتياد العربية يؤثر على العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًّا بيّنًا”.

4- اللغة العربية عامل جمع للأمة الإسلامية في كل مكان، حيث إنها لغة الدين، ولذلك نجد المسلمين من غير العرب يهتمون بتعليم أبنائهم العربية ويعلون من شأنها ويعظمونها، ليس لشيء إلا لأنها لغة القرآن، ما يذكرنا بمراجعة تلاميذ الشافعي له – رحمهم الله – بأنه أقام 20 سنة يتعلم العربية وأيام الناس، فقال ردًّا عليهم: “ما أردت بها إلا الاستعانة على الفقه”.

وقد فهم المستعمرون أهمية العربية في توحيد الأمة فحاربوها، وعززوا لغات الأقوام والقوميات على حساب العربية، بل إنهم أجبروا كثيرًا من غير العرب الذين احتلوا ديارهم على تغيير رسم حروف لغاتهم التي كانت تكتب بالحروف العربية، كما حدث في اللغات الملاوية والجاوية في شرق آسيا، والتركمانية في وسط آسيا، والسواحيلية والمدغشقرية في أفريقيا، وغيرها من اللغات، ليحل الحرف اللاتيني محل العربي في الكتابة، وليختفي الكثير من الأصوات التي يوجد ما يرمز لها في رسم الحروف العربية، ولا يوجد في اللاتينية، فبدأت بالتغييب مع تطاول الزمان.

فهل يصح عقلًا ومنطقًا أن تُترك كل هذه الفضائل، ليُستعاض بغيرها، ويكون تقديم المفضول على الفاضل؟! ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي إذ قال:

إن الذي ملأ اللغات محاسنًا          جعل الجمال وسره في الضادِ

وقد يورد البعض على ما تقدم إيرادًا بأن العربية لم تعد لغة مواكبة للعصر، وقد تقدمتها غيرها من اللغات، فصارت لغات للعلوم والتطور، وأنه لمواكبة التطور لا فائدة من تعلم العربية؛ فنقول بأن هذا القول مردود بشواهد التاريخ والواقع.

فغير خافٍ ما كان لعلوم المسلمين وعلو كعبهم في مختلف العلوم، ومدى استفادتهم بثقافات وكتب من سبقهم ومن عاصرهم، ومدى إفادة علومهم لمن جاؤوا بعدهم بعد ذلك، وكل علومهم إنما كانت بالعربية. ومن الواقع نجد أن العديد من الدول التي لا تتكلم إلا لسانها ولا تُعنى بغيره، قد قامت بترجمة العلوم وتدريس أبنائها بلغتها، وثبت تفوق كثير منهم، ونجاح تلك التجارب.

ومن أبرز التأثيرات السلبية لعدم الاهتمام باللغة على المجتمع:

1- انقطاع الصلة بين الأجيال، فلا يستطيع الأحفاد التخاطب بلغة يفهمها الأجداد والعكس.

2- انقطاع الصلة بالتراث والتاريخ والموروث، حيث إن الموروث محفوظ بلغة القوم لا بسواها، فيخرج جيل مُنبتٌّ عن تراثه وموروثه.

3- تغرب الجيل اجتماعيًّا، لعدم الاستطاعة على التأقلم مع المجتمع المحيط، حيث إن اللسان هو المبين عما في مكنونات النفوس، وعدم التمكن منه مؤدٍّ بالضرورة إلى الاغتراب.

4- يورث غربة التفكير، حيث يكون الإنسان في تفكيره مغلِّبًا لمنطق اللغة التي يتقنها، فلا يفكر بمنطق لغة قومه، وذلك لكون اللغة منطقًا ومنطوقًا، وليس منطوقًا فقط.

ولذلك فإن الواجب على الأمة أفرادًا وجماعات، حكامًا ومحكومين، رؤساء ومرؤوسين، الحفاظ على اللغة العربية وتعزيزها؛ ولعل من الحلول:

1- الاهتمام بمناهج التعليم، وإعادة ما تم تغريبه، ليعود فيُدرَّس باللغة العربية.

2- سن القوانين بوجوب العمل بلغة البلد في سائر المعاملات والعقود، وتقديم العربية على سواها في العقود، وسمو النص العربي على سواه.

3- إنشاء المعاهد وإقامة الدورات وتفعيل التطبيقات الحديثة لتعليم العربية لغير الناطقين بها.

4- إضافة حوافز للعمال في المحلات والأماكن التي يحتكون بها بالجمهور، لتعلم العربية.

5- اعتماد تعامل المجتمع بالعربية في التعاملات داخل البلد، ومنها معاملات السوق ونحوها.

وختامًا، نؤكد على أن إكرام العربية إكرام للإسلام، والجناية عليها جناية على الإسلام، وكم يسوء المرء أن يكون حال بعض بلاد المسلمين كالحال الذي ذكره أبو الطيب المتنبي، عند وصفه حدائق شيراز الغناء وتشبيهه لها بأرض الجن، التي يحتاج الإنسان فيها إلى المترجمين، فإن فيها رغم جمالها ورونقها غربة ووحشة، فقال:

مغاني الشِعب طيبًا في المغاني         بمنزلة الربيع من الزمــانِ

ولكــن الفـتــى العــربي فيـهــا         غريب الوجه واليد واللسانِ

ملاعـب جِنة لـو ســـار فيـهــا          سليمــان لســار بترجمــانِ

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...