نحو محاكمة الأبارتهايد الإسرائيلي

بواسطة | أغسطس 29, 2023

بواسطة | أغسطس 29, 2023

نحو محاكمة الأبارتهايد الإسرائيلي

أثارت التفوهات الأخيرة لوزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ردود فعل غاضبة في أرجاء العالم، وأصدرت الإدارة الأمريكية تنديدا بها؛ ونعني بذلك ما جاء في المقابلة التي أجرتها معه نهاية الأسبوع الماضي قناة “12”، والتي قال فيها: “حقي وحق زوجتي وحق أبنائي في الحركة في شوارع الضفة الغربية يتقدم على حق العرب”.
تصريحات بن غفير سببت لإسرائيل حرجا شديدا، لأنها لا تمثل فقط اعترافا رسميا بممارسة الفصل العنصري “الأبارتهايد” ضد الفلسطينيين، على غرار ما كانت تمارسه الأقلية البيضاء ضد الأكثرية السوداء في جنوب أفريقيا، بل تعكس تباهيا بتطبيق هذا النظام.
لم يكن لأحد حاجة بأن ينتظر حتى تصدر هذه التفوهات عن بن غفير، حتى يدرك أن إسرائيل تطبق بالفعل نظام الأبارتهايد في الضفة الغربية؛ حيث أن من يتحرك في أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة يلاحظ المظاهر التي تجسد هذا النظام في كل مكان؛ فجيش الاحتلال يخصص للمستوطنين اليهود شوارع يحظر على الفلسطينيين من أصحاب الأرض السير فيها، وفضلا عن ذلك فإن سلطات الاحتلال لا تتردد في فرض حظر التجوال على عشرات الآلاف من الفلسطينيين في المناطق التي يقطن فيها مستوطنون يهود، حتى يتمكن هؤلاء المستوطنون من الحركة مع الشعور بأكبر قدر من الأمن الشخصي، كما يحدث في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية. ونظرا للقيود الصارمة على الحركة،  التي يفرضها جيش الاحتلال في الأحياء الفلسطينية الواقعة في محيط الجيوب الاستيطانية اليهودية في الخليل، فقد فضلت عوائل فلسطينية كثيرة مغادرتها والانتقال للعيش في مناطق أخرى، رغم ما يتطلبه الأمر من تبعات مادية واجتماعية.
لكن مظاهر الفصل العنصري لا تتمثل فقط في القيود على حرية الحركة، بل تتجسد أيضا في تطبيق نظامين قضائيين منفصلين للفلسطينيين واليهود. فالنظام القضائي الإسرائيلي يتيح اعتقال آلاف الفلسطينيين بدون لوائح اتهام، وتعذيبهم وفرض أحكام جائرة بالسجن عليهم، في حين يسمح القضاء الإسرائيلي لليهود الذين يمارسون العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين بالإفلات من العقاب.
فحسب تقرير صادر عن منظمة “ييش دين” الحقوقية الإسرائيلية، فإن 93% من الشكاوى التي تُقدَّم ضد المستوطنين لممارستهم اعتداءات ضد الفلسطينيين، يتم إغلاقها دون أن تتحول إلى لوائح اتهام ضد المجرمين؛ في الوقت ذاته، فإن 3% فقط من لوائح الاتهام التي تقدم ضد المستوطنين اليهود بممارسة العنف والإرهاب تنتهي بالإدانة. وقد وصل تمييز القضاء الإسرائيلي ضد الفلسطينيين حدودا بالغة الخطورة، حيث برَّأت محكمة إسرائيلية أحد جنود الاحتلال الذي قتل الشاب الفلسطيني إياد الحلاق، المصاب بالتوحد، بعد أن أثبتت معاينة كاميرات المراقبة أن الجندي أطلق النار عليه دون أن يصدر عن هذا الشاب أي سلوك يسوغ إطلاق النار عليه.
ليس هذا فحسب، بل إن النظام القضائي الإسرائيلي يشرع الدعوات لممارسة العنصرية ضد غير اليهود في حال استندت إلى مصادر دينية يهودية، كما يشير الفقيه الدستوري الإسرائيلي مردخاي كريمنتسير؛ وهذا تحديدا يفسر ازدهار فتاوى الحاخامات التي تحث على الممارسات العنصرية ضد الفلسطينيين والعرب، حيث أن هذه الفتاوى تصدر عن الحاخامات الذين يمثلون المؤسسة الدينية الرسمية. فقد أفتى الحاخام شموئيل إلياهو، عضو مجلس الحاخامية الكبرى، التي تمثل المؤسسة الدينية الرسمية في إسرائيل، بجواز سرقة العرب بزعم أنهم “لصوص”؛ ويمكن رصد المئات من فتاوى الحاخامات التي تحث على التعاطي العنصري تجاه العرب وغير اليهود بشكل عام.
كما تمثل الدعوات لاستهداف الفلسطينيين وقتلهم، التي تصدر عن النخبة السياسية الحاكمة في تل أبيب مظهرا من مظاهر التمييز العنصري، التي تشي بأن حياة الفلسطينيين لا تساوي شيئا بالنسبة لهؤلاء. فقد دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلال سموتريتش علنا إلى “محو” بلدة حوارة الفلسطينية؛ وفي مناسبة أخرى خيَّر سموتريتش، عندما كان نائبا في الكنيست، الفلسطينيين بين: المغادرة، أو العمل في خدمة لليهود، أو القتل، دون أن يثير هذا التصريح ردود فعل تُذكر على الصعيد العالمي.
إن تعزيز وعي العالم الواسع بطابع وسمات نظام الفصل العنصري الذي تفرضه إسرائيل، يُلزم الفلسطينيين وكل من تهمه العدالة وحقوق الإنسان، الانخراط في جهد منظم وواسع من أجل فضح هذا الكيان بهدف عزله دوليا، ومحاولة نزع الشرعية عن مواصلة مكونات المجتمع الدولي تدشين علاقات معه والارتباط به بشراكات مختلفة، وإنجاح هذا التحرك يتطلب شن حملات مدروسة توثق هذه الممارسات من خلال سلسلة من المناشط المدروسة والموجهة وعلى أكثر من صعيد.
من هنا، فإن أول خطوة يتوجب الإقدام عليها، تتمثل في تدشين مركز معلومات لرصد مظاهر الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، وتغطية الدعوات التي تصدر عن النخب السياسية والدينية والثقافية الإسرائيلية، التي تشرعن التمييز ضد الفلسطينيين، على أن تكون هذه المعلومات موثقة؛ ومن الأهمية بمكان ترجمة المواد والنصوص والتصريحات التي توثق ممارسة سياسة الفصل العنصري أو تدعو لها إلى اللغات العالمية الرائدة.
ومما يدلل على أهمية هذا التحرك حقيقة أن نشر عارضة الأزياء الأمريكية بيلا حديد انتقادا لتفوهات بن غفير على حسابها على “إنسنتجرام”، الذي يتابعه 60 مليون متابع، كان من أبرز العوامل في لفت أنظار العالم إلى هذه التفوهات، ما أدى إلى تفجر سيل من التنديدات بها على مستوى العالم لها.
إن شن حملات لتعزيز الوعي العالمي بواقع الأبارتهايد الذي تمارسه إسرائيل، يفرض على الفلسطينيين التواصل مع ممثلي الأحزاب التي تُعلِي من شأن حقوق الإنسان، والتي تشارك في حكومات دول العالم، وإطلاعهم بالدلائل الموثقة على طابع ممارسات الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، لمطالبتهم باتخاذ موقف ينسجم مع منطلقاتهم الأيدلوجية؛ وفضلا عن ذلك يتوجب التواصل مع النخب الأكاديمية والعلمية والثقافية والإعلامية المؤثرة في أرجاء العالم بهدف تجنيد طاقاتها في إطار النضال ضد هذه الممارسات. كما أن القائمين على مركز المعلومات المتعلقة بممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية مطالبون بالعمل بشكل وثيق مع حركة المقاطعة الدولية ضد إسرائيل “BDS”، التي يمكن أن تستفيد من هذه المعلومات في إضفاء شرعية على دعواتها لمعاقبة إسرائيل على جرائمها.
في الوقت ذاته، يتوجب تشكيل فرق قانونية لبحث إمكانية محاكمة إسرائيل بسبب ممارستها الفصل العنصرى أمام المحاكمة الدولية، أو على الأقل إثارة هذه القضية أمام المحافل الأممية على نطاق واسع.
ومن نافلة القول أنه يتوجب إطلاع الرأي العام العربي على ممارسات إسرائيل العنصرية، التي تستهدف الفلسطينيين بشكل أساس لأنهم عرب، من أجل إضعاف الخطاب الرسمي المدافع عن التطبيع مع هذا الكيان، الذي تعكف عليه بعض الأنظمة والنخب المرتبطة بها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

عن الذين لا يعرفهم عمر!

عن الذين لا يعرفهم عمر!

جاء السائب بن الأقرع إلى عمر بن الخطاب يبشره بالنصر في معركة نهاوند؛ فقال له عمر: النعمان أرسلك؟.. وكان النعمان بن مقرن قائد جيش المسلمين في المعركة. قال له السائب: احتسب النعمان عند الله يا أمير المؤمنين، فقد استشهد! فقال له عمر: ويلك، ومن أيضا؟ ‏فعد السائب أسماء من...

قراءة المزيد
حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
Loading...