نزيف الطفل العربي

بقلم: محمد هنيد هنيد

| 20 أغسطس, 2023

بقلم: محمد هنيد هنيد

| 20 أغسطس, 2023

نزيف الطفل العربي

كان يجب أن نكتب عن جريمة اغتيال الطفلة “لين طالب” في لبنان، وكان لا بد أن نكتب عن جريمة اغتيال الطفل “موسى ولاء” في العراق، لا بسبب بشاعة الجريمتين وتوحش المجرمين، بل بسبب ما تخفيه هذه الجرائم وراءها من آلاف الجرائم المماثلة في حق الطفل والطفولة.
إن الممارسات التي تحصل اليوم ضد الأطفال العرب والمسلمين في الداخل والخارج، تصل حد اعتبارها جرائم ضد الإنسانية وضد أجيال بكاملها؛ ولا يقتصر هذا الوصف على الجرائم الفردية، بل يشمل ما تعرّض ويتعرّض له أطفال فلسطين والعراق واليمن وسوريا وليبيا والسودان من حروب وتنكيل وتشريد وتعذيب وتجويع، ما يزال متواصلا حتى اليوم.
يمثل الطفل داخل أي مجتمع مستويين على قدر كبير من الأهمية؛ فهو من جهة أولى الحلقة الأضعف والأقل قدرة على المقاومة والصمود، وهو من جهة ثانية مستقبل الأمة ومستقبل المجتمع نفسه.
جرائم في حق الطفولة
 من أين يمكن أن نبدأ؟ هل نبدأ من العنف المسلط على الطفل داخل الأسرة؟ أم نبدأ من جرائم التحرش والاغتصاب وصولا إلى القتل بفعل الاغتصاب، كما حدث للطفلة لين طالب في لبنان؟ هل نتحدث عن أطفال اليمن يموتون جوعا ومرضا وفقرا إلى الدواء والماء؟ أم نتحدث عن أطفال سوريا في مخيمات اللجوء وقوارب الموت وتحت القصف بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية؟ هل نتحدث عن الرعب الذي يملأ جوف الطفل الفلسطيني، وهو يخرج إلى المدرسة كل يوم، ولا يعلم إن كان سيعود إلى المنزل حيا أم لا ؟.
هل نثير مشكلة آلاف أطفال الشوارع في كل المدن العربية، وهم يمتهنون التسوّل ضمن شبكات من العصابات التي لا ترحم؟ هل نتطرق إلى حال عشرات آلاف الأطفال السوريين، الذين اختفوا في أوروبا داخل شبكات الاتجار بالبشر وتجارة الأعضاء واستعباد الأطفال جنسيا؟ هل يمكن أن ننسى ملايين الأطفال العرب والمسلمين، الذين يعانون الفقر والعوز والتهميش، ولا يجدون حذاء ينتعلونه شتاء أو صيفا؟.
هل يسمح السياق بأن ندرج كل مناهج التغريب وتدمير الهوية في حق الطفل العربي؟ هل يمكن أن نثير مناهج التدريس والدروس الخصوصية، والحرب على العقيدة والمبادئ والقيم والشخصية السوية في منصات الإعلام والتواصل، ضمن الجرائم المرتكبة في حق الطفل العربي؟.
التأسيس على الحطام
ما يحدد مستقبل الطفل العربي هو انتماؤه الطبقي، والبيئة التي يعيش فيها؛ وهذا يجعلنا نوزّع التصنيف على مساحات مختلفة تتباين فيها حظوظ النجاح، وتختلف فيها القدرة على بناء الإمكانات وتشييد أسباب النصر.
في البلاد العربية طبقتان رئيستان هما: الطبقة الغنية أو المترفة وما يطوف حولها من مكونات اجتماعية انتهازية، وطبقة عريضة من المكونات الفقيرة أو المتوسطة التي تنزع نحو الفقر؛ هذا بعد أن تمّ تقريبا سحق الطبقة الوسطى من الموظفين والعاملين في القطاع الحكومي، الذين التحقوا خلال السنوات الأخيرة بالطبقات الفقيرة. ويحظى أطفال الطبقة الغنية المترفة بقدر كبير من الحظوة تصل إلى حدّ الإفساد المادي، بينما يفتقر أطفال الطبقات الفقيرة إلى أدنى درجات الرعاية التي تمنع الشعور بالحرمان والغبن والإقصاء؛ وينتج عن هذا السلوك خلل اجتماعي فادح، يلغي شرط التوازن المجتمعي، وينعكس سلبا على المجتمع، بخلق بيئة حاضنة لكل أشكال الانحراف والشذوذ والعنف.
إن انعدام أشكال الرعاية السويّة للطفل العربي، انطلاقا من الأسرة وصولا إلى المدرسة، مرورا بكل أشكال التواصل والإنتاج المعرفي والنفسي على مختلف المنصات، يؤدي إلى الحالة التي نعيشها اليوم من التأسيس على الحطام. والخطر في الحالة العربية هو غياب الوعي بحالة التهميش التي يعيشها الطفل، وسط فقدان الدولة لأسباب الإحاطة اللازمة به، باعتباره الحلقة الأضعف في المجتمع، لكن باعتباره أيضا أساس المستقبل وعمود بنائه. وليست منظمات رعاية الطفولة ووزارات الأسرة والطفل إلا وجها آخر من وجوه الفساد العربي، ومساحيق تُخفي ما يعانيه الطفل والأسرة من العذابات والآلام والإهمال؛ وكذلك هي الجمعيات غير الحكومات والهيئات التي تدعي الدفاع عن حقوق الطفل والأسرة.
الإنقاذ الفردي والخلاص الجماعي
يذهب كثيرون في التعليق على جريمة قتل الطفل “ولاء موسى” في العراق، أو جريمة اغتصاب الطفلة “لين طالب” في لبنان، معتبرين أنها جرائم تحدث حتى في البلدان المتقدمة، متناسين طبيعة المجتمعات العربية الإسلامية المحافظة من جهة، ومبررين بشكل قبيح جرائم الاعتداء على الطفولة.. يتناسى هؤلاء أن المجتمعات الغربية تتوفر فيها كل وسائل التشهير بالمعتدين والمغتصبين والمتحرشين، كما تُمكّن حرية التعبير الأشخاص هناك من الشهادة والاعتراف بما قد يتعرضون له، أو ما قد تعرضوا له من اعتداءات حتى في طفولتهم البعيدة.
في المقابل، تحكم المجتمعات العربية قوانين الصمت تحت ذريعة العار والشرف والفضيحة؛ وهو ما يشجع المعتدين على التمادي في جرائمهم، ويمنع إيقاف النزيف أو حتى الحدّ منه؛ وهكذا يسحق الطفل العربي بين ناموس المجتمع من جهة، وفساد الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى، فيكون العقاب مزدوجا والعلاج أصعب وأعسر.
لن يكون الإنقاذ فرديا حتى لو حسب الناجون ظاهرا بأبنائهم أنهم نجوا، بل إن أطفال المهاجرين أو المبتعثين الذين يدرسون في أعرق الجامعات والمعاهد والمدارس إنما هم في الحقيقة ضحايا محرقة الهوية، ومشاريع التغريب والتمييز والعنصرية.. الخلاص لن يكون إلا جماعيا بالسعي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البذور الصالحة، علّها تنجح غدا في بناء ما عجزت عنه الأجيال السابقة من أسباب الخلاص والنجاح. وإن إعادة النظر في البرامج التربوية والتعليمية، والتوعية بمخاطر العنف وحساسية الجسد وحرمة الاعتداء على الآخر، سواء داخل الأسرة أو خارجها، هي السبيل الأقصر نحو إعادة البناء من القواعد.
أطفال اليوم هم شباب الغد، وهم محرك البناء والتنمية والنهضة والتطوّر؛ ولا سبيل إلى تأمين طريق المستقبل لكل مجتمع دون خلاص جماعي، يتأسس على حماية الطفل من كل أشكال العنف والإقصاء والتهميش.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...