نظام التفاهة.. نتنياهو وترامب نموذجان

بواسطة | يناير 24, 2024

بواسطة | يناير 24, 2024

نظام التفاهة.. نتنياهو وترامب نموذجان

في زمن التحوّل الاجتماعي، يرصد الفيلسوف آلان دونو تأثير التفاهة في سيطرة الرموز التافهة على المجتمع وتحول مفهوم العمل، موضحًا كيف يسيطر نظام التفاهة على مختلف جوانب الحياة.

التفاهة في سلطة الحكم: تحليل فلسفي لآثار تغيّر مفهوم العمل وسيطرة الرموز التافهة

ألن دونو فيلسوف من إقليم كيبيك الكندي، يبلغ من العمر 53 سنة، وصار منذ أن بلغ الثلاثين ملء السمع والبصر في مختلف أنحاء العالم، بسبب اهتمامه بقضايا حيوية، على أن الكتاب الذي جعل منه علما عالميا هو “نظام  التفاهة”، الذي يقول فيه: إن التافهين قد حسموا المعركة، وسيطروا على عالمنا، وباتوا يحكمونه، والدليل على ذلك حلول القابلية لـ”التعليب” محل التفكير العميق.

من ثَم يرى الفيلسوف (ساخرا) أنه لا لزوم للاطلاع على الكتب المعقدة، ويسدي لك النصح: لا تكن معتدّا بنفسك ولا روحانيا، فهذا يظهرك متكبراً؛ ولا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد.. فقط وسِّع مقلتيك، وارخ شفتيك، وكن ذا مرونة وقابلية للتشكُّل و”التعليب” لأن التافهين أمسكوا بالسلطة.

تغيّر مفهوم العمل:

ويعزو دونو سيطرة التافهين على مجريات الأمور في العالم إلى تغيُّر مفهوم العمل، بحيث صارت المهنة “وظيفة”، وصار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، و”يمكن أن تعمل عشر ساعات يوميّا في مصنع على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك، ويمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه، أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطرا؛ ولهذا انحدر مفهوم العمل إلى مستوى “المتوسط”، وصار شاغلوه “متوسطين”، بمعنى “دون المستوى”.

ويرى دونو أن نبتة حكم التفاهة غُرِست عندما صارت مارغريت تاتشر رئيسة للحكومة البريطانية، فـ “يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، واستبدلوا بالسياسة مفهوم الحوكمة، واستبدلوا بالإرادة الشعبية مفهوم المقبولية المجتمعية، وبالمواطن الشريك؛ وفي النهاية صار الشأن العام تقنية إدارية، لا مكان فيها لقِيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة مجرد شركة خاصة، وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة بالأفراد.. وشيئاً فشيئاً، تم تفريغ السياسة والشأن العام من المضامين التي ظلت قائمة عليها لقرون.

استهلاك العقلانية:

ومن ثم صارت التفاهة نظاما يستوجب أن “تلعب اللعبة”، ولم يعد للاعتبارات الإنسانية شأن، فكل ما هو مطلوب من الفرد هو الانتماء الأعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات وحفلات الطعام والدسائس، وبعدها يصير الجسم فاسدا بشكل بنيوي قاطع؛ حتى إنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه، ولماذا كان أصلا ولأي هدف.. ويقول دونو إن “الخبير” هو أفضل تجسيد لنظام التفاهة، فهو ممثل “السلطة”، المستعدّ لبيع عقله لها، في مقابل “المثقف” الذي يحمل الالتزام تجاه منظومة قِيم ومُثُل؛ وإن جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصانعَ للخبراء لا للمثقفين! فلا مكان فيها للعقل أو الحس النقدي.

ولعل أفضل من برع في عرض كتاب نظام التفاهة هو الكاتب والمفكر المغربي الكبير الداديسي (الكبير هنا اسم علم وليس صفة)، فهو يقول إن نظام التفاهة يقدس النقد (الكاش)، وإنه نظام فاشل بيئيّاً وظالم اجتماعيّاً، لأنه يجعل ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم، ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه، وأحال الموظف إلى مجرد أداة، والوظيفة إلى مجرد وسيلة متاحة لمن  يسعى للفوز بها، و”لم يعد مطلوبا من المدرس أن يكون كفئا، ومن إمام المسجد أن يكون حاملا فاهما لكتاب الله، ومن ثم فقد تجد إنسانا حاصلا على الدكتوراه في الكهرباء، ويستقدم تقنيا بسيطا لإصلاح عطل بسيط في بيته، وأُميّا لم يلتحق بمدرسة يبيع الكتب ويوجه النشء لشراء كتب لا يعرف محتواها.. وهكذا ستجد في كل مكان من يؤدي وظيفة المعلم، والأستاذ الجامعي، والطبيب والمهندس والنجار والصباغ والسباك، ولكن قلما تجد المهني الذي يتقن عمله، لأن الوظيفة لم تعد تتطلب الإتقان”.

التفاهة في السياسة:

ولعل التاريخ القريب لم يعرف تجسيدا لنظام التفاهة كما هو في حالتي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، اللذين كان وجودهما في مراقي السلطة العليا متزامنا.. فقبل نحو أربع سنوات دعا بنيامين نتنياهو وكالات ووسائل الإعلام إلى مؤتمر صحفي قال عنه إنه خطير، ونجح في الإبقاء على مئات الملايين من البشر في حالة ترقب وتوتر! ثم جاءت لحظة الحقيقة، وبدأ الحاوي نتنياهو سلسلة من الألعاب البهلوانية التي جعلت حدقات العيون تتسع، ونبضات القلوب تتسارع.

كان الأمر يتعلق بكنز زنته نصف طن من الوثائق، حصلت عليه المخابرات الإسرائيلية من مستودع إيراني سري، يتعلق ببرامج إيران النووية؛ وظل نتنياهو يتوسط المشهد وهو يتقمص دور قائد أوركسترا كونية، تعزف أنشودة نعي إيران بعد أن يقوم المجتمع الدولي بوأدها، في ظل ما تكشف عنه مئات الآلاف من الوثائق. وتولى نتنياهو ترجمة الوثائق المكتوبة بالفارسية إلى الإنجليزية، وكان يخرج عن النص كل بضع دقائق، ليذكِّر المجتمع الدولي أنه كان على حق عندما ظل يحذره من أن إيران لا يمكن الوثوق بها، وأنها قوة نووية في طور الشرنقة وستتطور قريبا إلى دودة كاملة تنهش الشرق الأوسط بأكمله.. وبعد أن أرغى وأزبد لأكثر من ساعتين، انتبه الإعلاميون إلى أنه لم يقدم نصف قصاصة من تلال الوثائق التي أمامه، تعزز زعمه بأن إيران خرقت تعهداتها الدولية بعدم تطوير سلاح نووي.

نتنياهو هذا، وخلال حربه على غزة، بلغت التفاهة عنده شأوا عاليا عندما تحدث عن عمليات اغتصاب جماعية، وبقر بطون أطفال بالجملة، من قِبل مقاتلي حركة حماس؛ ولأنه لا يعرف أن الرجوع عن الخطأ فضيلة، فلم يرمش له جفن بعد أن كذَّب إعلاميون غربيون وشهود دوليون عدول تلك المزاعم.

أما ترامب، فهو التفاهة تمشي على ساقين، وتأكيدٌ لأن عالم اليوم يعج ويضج بالتفاهة، وإلا فما الذي يجعل عصاميّاً في جهالته وضلاله وفساده، وسوء سيرته ومسيرته مكشوف أمام الملأ، يجد ناخبين يوصلونه الى سدة الرئاسة؟ فبعد نحو ربع قرن من شيوع الإنترنت، ظهرت خدمة تويتر للرسائل القصيرة، التي لا تزيد عدد حروف الواحدة منها عن 140 حرفا، وظلت الخدمة – ولا تزال- في معظمها أداة للدردشة الخفيفة، أو إبداء وجهات النظر في عبارات موجزة غير “متعمقة”، ولكن ترامب جعل تويتر وسيلة لتصريف شؤون الحكم والعلاقات الدولية.. ولك أن تعجب من أنّ عدد متابعي تغريداته بلغ 54 مليونا، بعد أن كانوا دون المليون قبل دخوله معترك السياسة.

هل بدأ زمن التفاهة قبل قرون، فحدا ذلك بالإمام الشافعي رضي الله عنه أن يقول:

لا تأسفن على غدر الزمان لطالما   رقصت على جثث الأسود كلاب؟

ورحم الله أبا الطيب القائل:

أفاضلُ الـنـاس أغـراضٌ لذا الـزمن   يخـلو من الـهـمِّ أخـلاهم من الفِـطن

وإنـمـا نـحـن في جـيــلٍ ســواسـيـة   شرٍّ على الحر مـن سُـقـمٍ عـلى بـدن

حـولـي بـكـل مـكـان مـنـهـم خِـلَــقٌ   تُخطي إذا جئت في اسـتفـهامها بِمن

فـقْـرُ الجهـول بـلا عـقــل إلـى أدب   فـقْــر الـحـمـار بلا رأس إلى رَسَـن

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...